بقلم: محمود حامد
عبد الناصر صالح أحد شعراء فلسطين الذين أخلصوا لوطنهم، وناضلوا في سبيله بإمكاناتهم الخلّاقة وبما أوتوا من فعل الطلقة، وفعل القصيدة المقاومة.
كتب الشعر مبكرا، واستلهم قصائده من روح وريحان وطنه السّليب، وعاشت فلسطين في ضميره وكيانه وشعره أسوةً بباقي شعراء الوطن، واجتهد أن يترك للأجيال ما يغنّى، وللقرّاء متعة الشعر الحقيقيّ، وللنايات ما تعيد ترداده نغما شجيّا على امتداد الزّمان، وللوطن ما يذوب بمغنيه وقصائدهم.
نصوص عبد الناصر صالح تحمل روح الوجدان الحيّ، وروعة الكلمة الوطنية المقاومة، وروح المعاصرة الرّاهنة.. قصائد استلهمها الشاعر من جماليات الوطن الزاخر بروعة الجمال والجلال، والناهض من جنون الأحداث قويا صابرا ثائرا على همجيّة الطغيان والغاصبين، وصامدا في وجه العواصف والمحن موصولا بشعبه للأبد.. إرادةً ثابتةً بالحقّ مؤمنةً بالنّصر مخلصةً لليقين الإلهي المحتّم بصبحٍ العزّة والفتح القريب!!
وفي اللحظة الموجعة الحاسمة تنهض فلسطين الحبيبة.. فلسطين الأنثى.. فلسطين الوطن وهي تبرز في جماليات الوجود جميعها: قصيدةً /صبوةً/ كينونةً.. تخطر ببال عشاقها المبدعين:
... يمّمت وجهي نحوها
وأضأت ليل قصيدتي من فيض نظرتها،
لكأنّ بي عطش التّراب لخطوها
سمّيتها عمري المؤجّل،
بوح ذاكرتي الخصيبة.
هكذا تحرّك الصّور ذاكرة المتلقي اتجاه نبض الشاعر بأنثاه /الأرض/ فلسطين وهي تمثل الجذور المغروسة في -ترابها الوطن– في حين يذكرنا الشاعر بغربتنا ووحشة المنفى التي ستظلّ كالقيد الدّامي في خطانا التي تراوح مكانها منذ ستين عاما وأكثر، ولكي يعبّر الشاعر عن ديمومة الحياة وحيويتها في جذورنا الفلسطينية انتماءً أبديا، وهويّةً وطنيةً حاضرةً فينا عبر الزمان.
والشاعر صالح واحد من شعرائنا الوطنيين والمناضلين في خندقي التحرير والقصيدة المقاومة.. يكتب النصوص الشعرية الوجدانية، وسخّر قصائده من أجل الوطن وقضايا أمته.. أسلوبه يميل للحداثة الشعرية والدلالات القريبة من الرّمز الجليّ الواضح والمفهوم، وصوره مستقاة من واقع القضية والحدث الفلسطيني بتفاصيله ويومياته، وآثاره التي خلّفها خلال 63 عاما من عمر النكبة المشؤومة، وإذا كانت قصائده تميل للأسى والحزن والوجع فهي تميل أكثر للتفاؤل والأمل والمستقبل المشرق، وحكم الوجع وجداني لعمق المأساة، وعمق التفاؤل قدري لارتباطه بوعد الله بالفتح والنصر والصّبح القريب، وفلسفة الشعر تحمل روح المعاصرة الراهنة:
... شاهدت سحابا يحمل مطر نبوءاتٍ
فصرخت بلادي
وفتحت نوافذ عشقي السريّة
أبحرت بأعماق الموج القادم من عينيك
فأدركني دمك المنثور على الأصداف وجبهات الماء
ناديتك: ماذا قالت عنقاء الجثث المصلوبة فوق ترابك ؟!
ماذا قالت أسراب "الفينيق" المحروقة فوق صخورك
أشلاءً أشلاء !؟
ماذا قالت أرواح الشّهداء !؟
بعد هذه المقدمة الموجعة بأسئلتها حدّ الفاجعة.. موج دامٍ، جبهة الموت المائي كجبهة الموت البرّي: دم، أشلاء، جثث مصلوبة، أسراب فينيق محروقة.. أشلاء.. أشلاء.. شهداء!!.. لغة شعرية فلسطينية متداولة لدى غالبية الشعراء، وأحاديث ناس الوطن العاديين دلالة عميقة لتذكير الأجيال بما جرى ويجري فوق التّراب الفلسطيني..
البداية للتذكرة، والعبرة، وفيما بعد تحمل أجزاء القصيدة التالية: التفاؤل والأمل فيما يأتي:
... عمّدتك جسدي ودمي
ووهبتك عمري الباقي في اللّوز، وفي الزّيتون،
منحتك نهر دمي الجاري
ماءً صافيةً لسهولك،
قلبي تفاحة عصر الفقراء
وقنبلة الزّمن الآتي
هل صرت لموتك عنوانا
أم مأوى للحزن الماطر من عينيك؟!!
هل أعشق وطني؟
يحرقني نبض العشق!!
المقطع التالي: دلالة البذل الخالدة من أجل الوطن.. أغلاه الأجساد والدّماء والعمر الذي يوهب لا يذهب سدىً، ولكنه يثمر حياةً جديدةً خالدةً في جذور اللوز والزيتون من الرموز الخالدة للوطن العربي الفلسطيني، والتفاحة تبرز دائما لفعل ما، ونتيجة ذلك الفعل، حيث هي تفاحة الحظ لنا وقنبلة الآتي ضد الأعداء، ثم الدلالة الخالدة لعشق الوطن، والتي تسري في الأجيال بتوارث نبض العشق!!
حمولة من الأحداث الجسام ظلّت الحامل الضاري لشعرنا الوطني.. تصبح الكلمة فيها مفتوحةً على احتمالات ضارية كذلك، وساعة الكتابة عقدا من النزف المفتوح على الدّم والشعر، وسكة العمر تسير بمحاذاة الموت والهمّ اليومي للفلسطينيين حيث وجدوا من خيمة المنفى إلى شوارع عواصم الشتات والغربة والإغتراب، وعبر هذا كله فإنّ الفكر المقاوم ظلّ رائعا وقويا وصامدا ضد عواصف الذبح والخراب، والقصيدة المقاومة لم تغب عن ساح وخندق نضالها، وشعبنا أنتج أجيالا مقاومةً لم يشهد لها التاريخ مثيلا، وظلّ شعرنا يدور في هذه الفضاءات اللاصقة بالروح والوجدان والمشاعر حدّ المستحيل: فضاءات الشعب الأسطورة، والجيل الأسطورة، والولد الأسطورة:
... إنّه الولد المتماثل في طلعة النّجم
والوطن / الحلم ديدنه
عائدٌ من فصول الشّقاوة
ما ألقت الحرب أوزارها لينام
وما زال سرب الحمام
حزينا على شرفات النّوافذ
يحرس قلب المدينة.. يؤنس وحشتها