الرسالة نت – محمد الشيخ
عندما سئل وزير الخارجية الأمريكي الأسبق "كيسنجر" عن الشعب الفلسطيني، أجاب قائلاً: "لم أجد في حياتي أعند وأذكى من رجال فلسطين"، وما دفعنا لأن نستذكر ذاك الموقف، ما لجأ إليه طفل صغير يبيع السجائر على إحدى المفترقات بغزة، من حيلة أوقعت "الرسالة نت" في حيرة من أمرها، ودفعتها لأن ترتكب جُرماً في سبيل إجراء مقابلة صحفية "ع الواقف" وليست حصرية أيضاً، لأن غزة تزخر بمن هو في حالته ووضعه المأساوي.
تعود أحداث القصة إلى مساء أحد الأيام، وقد بدأ الظلام يسدل ستاره على قطاع غزة وأخذت الشمس تأذن بالرحيل، في أجواء ماطرة وباردة جداً، حيث أنهى مراسل "الرسالة نت" عمله واستقل سيارة عائداً إلى منزله وقد حاز الإرهاق والتعب مساحة من جسده.
وعلى أحد مفترقات غزة ونحن ننتظر الإشارة الضوئية أن تأذن لنا بالسير، "وقعت الواقعة" التي أكدت صحة ما قاله "كيسنجر" قبل أعوام عدة، حيث قابلنا طفلاً صغيراً يحمل بكفيه "كرتونة سجائر" مهترئة وينادي بأعلى صوته "مين يشتري سجاير في عز المطر؟!".
مشهد الطفل وما ينادي به، أرغمنا على النزول من السيارة، والتوجه إلى الطفل للاستفسار عما دفعه لبيع "السجائر" في جو عاصف أُعلنت لأجله حالة الطوارئ بغزة.
توقعنا قبل الخوض في الحديث مع الطفل الصغير، رداً يثير الشفقة ويأسر قلوبنا؛ نظراً لحاله الصعبة والمحزنة حينها؛ لكن قوبلنا برد أثار استغرابنا وأدخلنا في حيرة من أمرنا، حيث طلب الطفل من مراسل "الرسالة نت" شراء علبة من السجائر قبل أن ينطق بأي حرف.
وبعد محاولات حثيثة لثنيه عن طلبه، لم يكن أمامنا حيلة سوى أن نلبي شرط "الطفل العنيد" على أمل أن نستكشف حالة إنسانية يندى لها الجبين.. وبدأت المقابلة التي ستسجل في تاريخ "الرسالة نت".
بطل قصتنا هو الطفل عبد الله ذو الـ12 ربيعاً، الذي اكتفى بذكر اسمه فقط، متحرجاً من التصريح عن هويته كاملة.
"عبد الله" طالب في الصف السادس الابتدائي، يعود من دوامه المدرسي مسرعاً إلى بيته، ليمسك كرتونته الصغيرة المهترئة المعبئة بالسجائر، وينطلق بها متوجهاً إلى المفترقات الرئيسية بغزة، ليجني شيئاً من الأموال يعين بها أسرته.
يقول عبد الله: "أذهب إلى المدرسة صباحاً وأعود منها إلى والدي لآخذ حصتي من سجائر اليوم حتى أبيعها وأحقق الربح، وأبقى على الطريق من الساعة 12 ظهراً وحتى 10 مساءً".
وعن السبب الحقيقي الذي دفعه للوقوف في هذا الطقس الصعب، ردّ عبد الله بابتسامة خجولة وإجابة بريئة "لا أعرف" وسكت للحظات ثم قال "يمكن لأني وأهلي محتاجين"، مؤكداً أنه يعمل بكامل إرادته، ولم يجبره أحد على ذلك.
وعند سؤاله إذا ما كان راضياً عن عمله ويريد الاستمرار به، أجاب بكل حزم وحنكة، وعلامات التجهم على وجهه "لا لا.. أنا أريد الاستمرار ببيع السجائر، وبإذن الله سأكمل دارستي الإعدادية والثانوية وسأصل إلى المرحلة الجامعية وأدرس الهندسة".
ويبقى السؤال المحيّر؛ أيعقل لأب يخاف على ولده من الانحراف أو الضياع أن يقبل بهذه المهنة لولده التي لا تليق بعمره ولا طاقته؟، فمن حق الطفل أن يعيش حياة كريمة، وتتوفر له مقومات الحياة حتى لا يصل به الحال إلى هذا الحد.
وللتذكير –ليس أكثر- فإن المادة (26) لحقوق الطفل من القانون الإنساني تنص على أنه لكل طفل الحق في الانتفاع من الضمان الاجتماعي.
وأخيراً.. نرجو من القارئ العزيز أن يلتمس لمراسل "الرسالة نت" عذراً لما صدر عنه، بقبوله شراء علبة سجائر؛ لأن الصحافة كما أطلق عليها "مهنة البحث عن المتاعب".