قائد الطوفان قائد الطوفان

خريف غزة بلا زيتون

غزة - خاص الرسالة نت

تتشابه حكاية شجرة الزيتون بحكاية أهل غزة، كلاهما يتشبث بأرضه محاولاً البقاء على قد الحياة رغم استحالة الظروف، تحكي شجرة الزيتون قصص الأجيال فهي الشاهدة والشهيدة على حياة صعبة وواقع أليم مر على فلسطين. 


تُجسد هذه الشجرة رابطاً عميقاً بين الأرض وأهلها، فلم تقتصر على كونها شجرة مثمرة، بل رمزٌ للهوية والصمود على مدار قرون، كانت هذه الشجرة منبعًا للحياة، تقدم ثمارها بسخاء لتكون جزءًا لا يتجزأ من حياة الفلسطينيين، كان الزيتون والزيت موردًا رئيسيًا، وحطب الشجرة ملاذًا للتدفئة في ليالي الشتاء القاسية، وظلها غطاءً يحمي من شمس الصيف الحارقة، لكن رمزية هذه الشجرة تمتد إلى ما هو أعمق، فهي تمثل جذورًا ضاربة في تاريخ الشعب الفلسطيني وثباته على أرضه رغم المصاعب.


أصاب هذه الشجرة وغيرها من الأشجار المعمرة ما أصاب أهل غزة، طالها بطش الاحتلال الإسرائيلي الذي لم يترك بشرا ولا حجرا إلا ونكل به، على مدار عامٍ كامل من القصف والتجريف اقتلع الاحتلال معظم الأشجار في قطاع غزة وأبرزها شجرة الزيتون، لم يترك للمزارعين سوى أرض قاحلة، وجذور من الماضي.


المزارع مروان الفليت، الذي كان يملك قرابة 15 دونمًا مزروعة بأشجار الزيتون، يعبر عن صدمته وحسرته قائلا: "لم يبقَ لدي سوى أرض قاحلة، قصف الاحتلال أرضي ثلاث مرات فلم تسلم شجرة زيتون واحدة".


هذا الحقل كان مصدر رزقه الوحيد، حيث يعتمد عليه هو وعائلته طوال العام؛ ومع هذا الموسم الذي كان يمثل الأمل في تأمين لقمة العيش لبقية العام، يجد مروان نفسه اليوم بلا شجرة ولا محصول.


قبل سنوات، كانت الحقول في غزة تمتلئ بالحياة والفرح خلال موسم الزيتون، كانت العائلات تتجمع في الحقول، حيث تصدح الأهازيج الشعبية التي ترافق عملية القطف والأغاني التراثية تمزج بين العمل والحب للأرض، لتُعبر عن قوة الترابط بين الفلاح وأرضه.

أما هذا العام، فالمشهد مختلف تمامًا. الأهازيج توقفت، والأرض باتت صامتة، والأشجار التي كانت تحمل الثمار قد اقتُلعت أو احترقت، أصبحت الحقول خالية إلا من ركام الأشجار والذكريات المؤلمة، ما تبقى من أشجار الزيتون لم يعد يُستخدم للقطف، بل لجمع الحطب. بعد أن منع الاحتلال دخول غاز الطهي إلى القطاع، اضطر العديد من العائلات إلى قطع الأشجار القليلة المتبقية لاستخدامها كوقود للطهي والتدفئة. لقد تحول الزيتون من مصدر حياة إلى رمز للنجاة في ظل حصار مستمر. 


قال أحمد أبو ملوح صاحب حقل زيتون شرق مخيم البريج: "هذا الموسم كان مصدر رزقي وعائلتي، أعمل خلال هذا الشهر لتأمين رزقي لباقي العام، لكن اليوم لا مصدر دخل ولا حقل أستطيع الوصول إليه"، تلك العبارة تختزل حال مئات المزارعين الذين خسروا كل شيء بعد أن كانوا ينتظرون هذا الموسم بفارغ الصبر، باتوا الآن يبحثون عن طريقة للتكيف مع هذا الواقع الجديد، حيث لا أشجار، ولا محصول.


مع هذا الدمار، أصبح الزيتون نادرًا، وارتفعت أسعاره إلى أكثر من ضعف ما كانت عليه في السنوات السابقة، هذا الارتفاع الحاد في الأسعار يعكس ندرة المحصول وشح الثمار، فمعظم العائلات كانت تعتمد على زيت الزيتون في طعامها اليومي باتت غير قادرة على تحمل ثمنه، وهو الذي كان يومًا جزءًا أساسيًا من مطبخ كل بيت.


يقول المواطن أحمد صالحة "في كل عام كنت أخزن قرابة  15 كيلو من الزيتون، هذا العام لم أخزن سوى  ثلاثة كيلو سبب ارتفاع سعره وقلة جودته مقارنة بالأعوام السابقة".


تقف غزة أمام مشهد قاتم، حيث الدمار طال كل شيء، حتى رموز البقاء والصمود؛ شجرة الزيتون التي كانت تقاوم العواصف والرياح، لم تستطع أن تقاوم قصفًا مستمرًا على مدار عام كامل ومع كل شجرة تُقتلع، يشعر أهل غزة بأن جزءًا من هويتهم وتاريخهم يُقتلع معها، لكن الأمل مازال متجذراً في قلوب المزارعين، أن شجرة الزيتون قد تُقتلع من الأرض، لكن جذورها تبقى حية في الوجدان، مستعدة للنمو من جديد عندما تأتي الفرصة.

 لكن ذكرى هذا الموسم المؤلم ستبقى محفورة في ذاكرة غزة، كفصلٍ من فصول المعاناة التي يعيشها أهل القطاع في كل تفاصيل حياتهم في ظل حرب الإبادة الجماعية التي تجاوز عمرها العام.

البث المباشر