قائمة الموقع

مقال: المصالحة ..تلك التي نريدها ونخاف منها!!

2012-03-08T06:58:19+02:00

 بقلم .د.غازي حمد

يبدو أنه كتب علينا الا نرى فرحة المصالحة !! كلما تقدمنا خطوة فوجئنا بحفرة كبيرة  وكلما سرت البشرى من جديد كلما فاجأتنا صدمة أشد تحول الفرحة إلى "مأتم" لسبب أو لآخر, وكأن أحدا "عمل لها عمل" من سحر أو شعوذة كي لا تحمل ولا تلد !!, وهكذا تنقلنا- طوال خمس سنين- بين فرحة غامرة وصدمة لاطمة وإحباط متقطع ... دون أن نفهم لماذا يحدث كل هذا ..وهكذا تحولت حياتنا إلى انتظار للمجهول !!

إن المصالحة أضحت كدابة عرجاء هزيلة تصعد بخطى وئيدة متثاقلة على سفح جبل , اللهم يعلم متى تصل , وهل تضل طريقها أم تنقلب على ظهرها من عبء ما تحمل !! .

بدلا من أن تتحول المصالحة إلى بارقة أمل ومستقبل , انقلبت إلى هاجس وخوف , وأصبحت مضغة في أفواه الناس .ورغم الكلمات القوية التي تغازلها وتتغنى بها, صباح مساء, " خيار استراتيجي" ,"واجب وطني" , "مطلب شعبي وضرورة نضالية " ... إلا أنها تبقى شعارا بدون رصيد !! نعم نحن نحب المصالحة ونريدها , لكننا حين نقترب منها نخافها وتنتابنا الكوابيس والهواجس , ويدخل "الشيطان" لينزغ بيننا وليوسوس لنا بان الثمن باهظ والتكلفة كبيرة والاستعجال غير مطلوب والحسابات كثيرة و" الامتيازات" ستضيع و" الحكومة ستفلت" و" المنظمة سيتغير حالها" ,ويتسلط علينا "الوسواس القهري "كي نعيد الجولة بعد الجولة واللقاء بعد اللقاء وتفرخ اللجان لجانا أكثر , ثم نجد أنفسنا نصلي بدون وضوء !!

كلما مضى الزمن كلما فقدت المصالحة بريقها ومصداقيتها, وخسر الجميع من رصيده , وكلما تراجعت القضية وربح الاحتلال .نحن في سباق مع الزمن , ويبدو أن الذين يتجادلون على نصف كأس الماء – الفارغ أو الممتلئ- وجدوا من يشرب الماء خلسة ويبقيهم بلا كأس وبلا ماء !!. المثير انه في الوقت الذي تغرق فيه المصالحة في قيعان من الفشل والتعثر نجد وسائل الإعلام تحفل بصخب يتمحور حول من أفشل المصالحة ومن عرقلها ومن تسبب في وئدها , وعامة الناس لا تريد إرهاق آذانها بحرب إعلامية حول مصالحة غير موجودة .

الأسباب والتخوفات

لقد دخلت المصالحة في هذا النفق , الطويل والممل , لأنها- منذ بدايتها- لم تقم على قواعد صحيحة وسليمة, وقديما قيل (من لم تكن له بداية محرقة فلن تكون له نهاية مشرقة ) , وقامت على تجاذبات وخلافات وصراع وتناقضات لا حصر لها , والأدهى من ذلك أنها لم تقم على قواعد الثقة بقدر ما قامت على قواعد الشك , ومن ثم وأصبحت كمن يرقد في العناية الفائقة ويعيش على التنفس الاصطناعي وتركب له أرجل من خشب !!..صحيح أنها تتحرك لكن ببطء يبعث على الملل ويشعر بالشلل !!, إنها مجرد عملية ترقيعية لخرق يتسع يوما بعد يوم , وليست عملية ممنهجة ومنظمة ومعدة لها بشكل متقن .. إنها لم تعد عملية "وطنية " بقدر ما هي صراع حزبي وفرض إرادات وتعارض مصالح .. إنها مصالحة باتت "ساحة حرب وخصام " في وسائل الإعلام .. وباتت محل قلق وتشكيك في القواعد التنظيمية .. إنها موضوعة " على حرف" تتقلب ما بين الجنة والنار, لذلك لا يمكن لها ان تنجح حتى لو عقدت عشرات اللقاءات والاجتماعات والتقطت لها آلاف الصور المبهرة !! ليس هكذا تصنع المصالحة يا قوم !! وليس هكذا يقرر مصير شعب تقولون عنه انه يستحق منا أكثر , ويستحق منا أن نضعه فوق رؤوسنا .. تحسسوا رؤوسكم جيدا وستعرفون جديدا أين موقع الشعب من المصالحة !!

نحن نجري وراءها ونحاول الإمساك بها وهي تزوغ من بين أيدينا!! ربما لأننا لم نستحقها بعد, لان النيات لم تصفو والإرادات لم تتوفر .

من المهم أن نقف على الأسباب الظاهرة والباطنة التي تحول المصالحة إلى " شبح" غير منظور وأمل غير متوقع.

أولا: ان أحد الأسباب الرئيسة لتعطل وتعثر المصالحة ( وهو كلام قديم مكرر) هو أن العلاقة بين حركتي حماس وفتح كانت -ولا تزال - تقوم على الشك والخوف وتوقع الشر من الطرف الآخر , خصوصا في القواعد , وهذه العلاقة رسخت طوال السنوات الماضية , ولم تنجح اللقاءات "الدافئة" التي جمعت قيادات الحركتين في تخفيفها على الأقل.

أذكياء قالوا : وهل كانت هناك أصلا مصالحة بين حماس وفتح قبل إجراء الانتخابات ؟ الم تكن مظاهر التوتر والاحتقان والشك هي التي حكمت طبيعة هذه العلاقة لعقود ؟ أليس سلوكنا الفلسطيني وتراثنا "المجتمعي " يستند لقاعدة "البقاء للأقوى " وليس لقاعدة التعايش ؟ إذ أن أي فصيل فلسطيني يسيطر على مقاليد الحكم ينزع عموما نحو التفرد , وهذه ثقافة درج عليها الجميع .

أليس من الأولى أن نتخلص من هكذا ثقافة مدمرة حتى نستطيع أن نخلق حالة من التعايش الوطني ؟ .هناك من يرغبون ويعشقون الحديث عن استحالة التعايش وكأن العالم كله يسير على هذه الشاكلة , فيما اللغة السائدة الآن هو البحث عن الائتلافات السياسية والخروج من دائرة الحزب الواحد والتخلص من التعصب الحزبي والقياسات المقدسة .

استغربت كثيرا أنه بعد العودة من لقاءات القاهرة واتفاق الدوحة بدأ التراشق والتلاسن حول من طلب تأجيل تشكيل الحكومة وحاول كل طرف أن يدافع عن نفسه في حين أدرك الناس ان المصالحة لم تتحقق والحكومة لن تشكل , فما الداعي لمثل هذا الجدل الذي لا مبرر له؟

إن ثقافة الشك وغياب الثقة والتخوف من سحب " الامتيازات" و "الانجازات "( هل نتحدث عن انجازات وطن أم انجازات حكومة ؟) من قبل طرف لصالح طرف آخر , ومن توجيه تحول دفة القيادة من طرف لآخر هي القاصمة التي تجعل المصالحة تراوح مكانها ولا تتزحزح الا في إطار الأوراق واللقاءات واللجان , والتي حولت المصالحة الى حصان خشبي أو قطعة من البلاستيك الجامدة الزاهية اللون لكنها فاقدة الروح .

كما أن المراهنات والحسابات المتعجلة على الربيع العربي لا تعني تجميد المصالحة لهدف غير منظور , وكذا المراهنة على إنهاك طرف او خسارته أيضا في حكم الوهم .

مع الأسف أن هناك حسابات خاصة وضيقة تحكم حركة المصالحة على رقعة الشطرنج, وهي غالبا ما تكون حسابات غير منطقية ومحكومة بإطار تنظيمي أكثر منه حساب وطني .

ان القضية الفلسطينية تفقد بريقها وزخمها أمام هجمات الاستيطان وحملات التهويد , فيما نتنازع لأكثر من خمس سنين على قضايا تعتبر هامشية جدا مقارنة بقضايا القدس والاستيطان واللاجئين. ان الحكومة ليست أهم ولا أغلى من الوطن ,وليس منصب رئيس الوزراء أهم من المسجد الأقصى الذي يدمينا حرقة وبكاء ليل نهار , وليست الانتخابات بعصا سحرية تمنحنا سيادة حقيقية وحكومة فعلية في ظل الاحتلال .

كيف مضى نحو 1825 يوما منذ الانقسام دون أن ننجح في حل أزماتنا أو بعضها ؟ هل "استحلت" الفصائل الذهاب للقاهرة والنزول في " سيتي ستار" دون ان تملك قرارا شجاعا أو رؤية واضحة لحل مشكلة الانقسام .. الم يعلموا ان الشارع الفلسطيني يغلي, وقد تعب ومل من الانقسام وتبعاته .. ؟؟ الذين يتحدثون عن انه " آن الأوان للتحرك باتجاه القدس" فانه ينبغي عليهم أن يقولوا قبل ذلك انه "آن الأوان للتحرك تجاه وحدة الصف " حتى لا نتحرك تجاه القدس ونحن موزعون متشاكسون على سبل وطرق شتى ,وربما نضل طريقنا نحو القدس ونذهب باتجاه آخر !! أين هي القدس من الأجندة الوطنية إذا كانت قضايا الحكومة والانتخابات والأجهزة المنية قد "بلعت" كل شيء واستحوذت على تفكيرنا وتدبيرنا؟ لم يتبق للقدس سوى المهرجانات والخطابات والتصريحات الرنانة ..وتلك التي لا تضمن تحريرا ولا تحريكا !!

ثانيا :فقدان الإدارة الصحيحة لمعالجة قضايا الحوار : إن الحوار لم يقم منذ بدايته على أسس الإدارة السليمة التي تكفل ان يتم ترتيب وتنظيم الحوار بطريقة تفضي الى تحقيق نتائج ملموسة ..هكذا هي الحالة الفلسطينية التي تتسم دوما بالتقلب والمزاجية وعدم الانتظام في مسلسل متراكم من النتائج والمعطيات , كما أنها حالة " قصيرة النفس" سرعان ما تصل إلى القمة وسرعان ما تهبط إلى القاع. لقد مرت المصالحة بفترات مد وجزر حتى لم نعد نعرف كيف سينتهي هذا المشوار الطويل .

ان ترتيب أوراق المصالحة وتنظيم شئونها ووضع سلم الأولويات والإعداد المسبق للقاءات بشكل متقن ضرورة لإنجاح الحوار, حتى نتجنب "الطفرات" التي أرهقتنا كثيرا . هناك حاجة ملحة لإيجاد "سكرتاريا" تقوم على ضبط عملية المصالحة والحفاظ على مسارها من التشعب والتشتت وكذلك ضمان الاستمرار والمتابعة .

ان "تنقيط " المصالحة في أفواهنا العطشى لن تروي ظمأنا , وان " تقسيطها " على سنوات لا تريحنا بقدر ما تسرق منا الثقة بها .

ثالثا : من المفترض ألا تكون المصالحة لصالح طرف على اخر , اذ أنها – وبمفهوم الشراكة – تقوم على إعادة صياغة نظام سياسي جديد ضمن الإطار الوطني الجامع , لهذا فان الذين يتخوفون من المصالحة ويضعون علامات التعجب والاستفهام والقلق من المستقبل إنما يتوهمون أمورا ليست قائمة ويتخوفون من "أشباح" ليست موجودة .

إن الرابح الأكبر من المصالحة هو الوطن والقضية , وليس هناك طرف خاسر بتاتا ( إلا إذا ربط البعض الخسارة بمنجزات او امتيازات عابرة ). على سبيل المثال," حماس " أحوج ما تكون الى المصالحة بسبب أنها أكثر الأطراف تضررا من الانقسام , فهي التي عانت من العزلة السياسية والحصار الاقتصادي وفقدت كل مؤسساتها وقدرتها التنظيمية في الضفة الغربية وتحملت عبء توفير مقومات الحياة في قطاع غزة بكد ومشقة وغرقت في المشاكل اليومية لغزة من رواتب وكهرباء ووقود وأدوية ...الخ . ان حماس بحاجة لان تعيد تنظيم وترتيب أمورها وعلاقاتها العربية والإسلامية من خلال بوابة المصالحة لأنه لا يوجد بديل آخر .. لا يمكن لحماس إن تستمر في حكم قطاع غزة لوحدها الى الأبد , ولا يمكن ان تظل مرهقة بقضايا تصرفها عن هدفها ومسئوليتها الرئيسة وهي تحرير الوطن . صحيح ان قيادة حماس مقتنعة جدا بضرورة المصالحة وقدمت مرونة كبيرة لإنجاحها , غير ان ثقتها بفتح مهزوزة الى حد كبير ويغلب عليها الشك أكثر , كما ان قواعدها بحاجة الى ثقافة جديدة تنفض عنها غبار الخوف والشك وتزرع فيها ثقافة التعايش والانفتاح . ان حماس حركة قوية ببنيتها التنظيمية والعسكرية ووجودها الشعبي وبالتالي لا مكان للخوف من الإقصاء او شطب وجودها حتى لو تولى من ولى رئاسة الوزراء أو مناصب الحكومة , فهذه المناصب ليست هي التي تحدد قوتك او شعبيتك بين الناس . الحكومة إذا استمرت لشهر أو عشرة فإنها تمضي ويأتي غيرها . المهم هو الحفاظ على الرصيد " الوطني " والشعبي " لأنه أهم بكثير من الرصيد الحكومي .

كما أن هناك في "فتح" من تساوره الشكوك والقلق من المصالحة , ويعتقدون ان دخول حماس منظمة التحرير او مشاركتها في السلطة "ستقلب الأمور رأسا على عقب" .. وهي كلها أوهام لا محل لها من الإعراب .

لسنا بحاجة الى معارك ومساجلات إعلامية تملأ الدنيا صخبا وضجيجا .. نريد أن نعمل بصمت ودون استعراض للعضلات او اصطياد للأخطاء ..في نهاية المطاف نريد مصالحة حقيقية , لا أكثر ولا اقل .

أقولها بوضوح : ليس من مصلحة فتح أن تكون حماس ضعيفة ومحاصرة , ولا من مصلحة حماس ان تكون فتح مفككة ومنقسمة على نفسها , لأن من شان هذا أن يكلف أحدهما عبئا أكبر ومسئولية تجاه الوطن فوق طاقته . ان كل طرف يجب أن يعمل على تقوية الآخر ضمن الثوابت والمصالح الوطنية , لان معادلة شطب الآخر أو تجاهله أضحت مستحيلة .

نحن بحاجة الى ان تكون المصالحة معافاة قوية خالية من الأمراض والعيوب ..خالية من ميكروبات الشك ..صافية من الانجازات والامتيازات العابرة , وغنية بامتيازات و" فيتامينات" الوطن .. لا نريد مصالحة عوجاء شوهاء عرجاء , مثقلة بأمراض مزمنة وبأحمال مرهقة . دعوا هذه الفتاة الجميلة تطل علينا ببهائها وصبحها الندي المعطر ... لا تدعوها يتيمة هائمة تخطفها الذئاب وتعوي عليها الوحوش .. امنحوها " اكسير الحياة " وضخوا فيها دم الوطن وامنحوها الدفء والشمس حتى تنمو وتقف على سوقها ... "حرام " ان تموت هذه الفتاة الجميلة يتيمة شريدة طريدة دون أن تجد مأوى بعد تشرد دام خمس سنوات .. كونوا ككافل اليتيم حتى تكونوا رفقاء " محمد " ( صلى الله عليه وسلم ) في الجنة .

اخبار ذات صلة