دير البلح-محمد بلّور-الرسالة نت
أبدع الحصار في غزة حين حرم الناس الماء والكهرباء ومكّنهم من شمّ رائحة الشواء تتصاعد من ضلوع أطفالهم ! .
لن يهنأ رائد بشير بعد اليوم برائحة أنفاس أطفاله الدافئة وهم يخلدون إلى الفراش ! , سيفتقد القبلات والراحات الطريّة التي كان يستقبلها برداً وسلاماً أمام وطأة الحياة .
أما الشقيقة الرابعة ابنة الستة شهور فلن تجد ما يسليها بعد أن تعوّدت جلبتهم وقد أوشكت على الحبو في الفناء .
سيلفّ الصمت البيت بعد رحيلهم ويضرب الفراق أطنابه معلناً ساعة الألم المتجددة مع كل طيف وذكرى .
قطاع غزة فجع ليلة أمس بنبأ استشهاد 3 أطفال من عائلة بشير حرقاً في حجرة نومهم عندما أشعلت أمهم شمعة لتنير الحجرة في ظل انقطاع الكهرباء، في حجرة قيل انه كان بها جالون بنزين .
احتراق الحجرة التي كان ينام فيها الأطفال نادين 6 سنوات وفرح 5 سنوات وصبري 3 سنوات أدى لاحتراقهم بشكل كامل وإصابة أمهم وشقيقتهم الرضيعة ابنة الستة شهور .
الثامنة مساء
يحترم الغزيون الوقت أكثر من ذي قبل، فقد حكم انقطاع التيار الكهربي معظم ساعات النهار عليهم بملازمة ساعة اليد أو مدّ العنق دوماً نحو ساعة الحائط .
كل الأحاديث تتلخّص في معضلة الكهرباء التي دخل همها منزل السيد رائد بشير 40 سنة من سكان منطقة الحكر جنوب دير البلح، الذي يعمل سائقاً، ما يعني حمله همّ نقص الوقود على دفعتين .
كادت أن تكون ليلة عادية حين أشعلت زوجة رائد شمعة لتنير حجرة نوم الأطفال وهم يخلدون للنوم خشية الظلام.
ثبّتت الشمعة على منضدة بلاستيكية وانسحبت نحو الحجرة المجاورة هي ورضيعتها بينما كان الزوج يكابد طلب الرزق خارج البيت .
نامت الشمعة على جنبها فاشتعل الفراش واحترقت الحجرة فاختلط دهن الأطفال الصغار بأثاث الحجرة المحترقة .
تكاثر شهود العيان من الجيران للنداء على سكان البيت فلبى أشقاء وأبناء أشقاء ربّ البيت وحاولوا إنقاذ ساكنيه .
في خيمة العزاء المقامة أمام منزل بشير يزوي رائد "والد الشهداء" رأسه بين كتفيه ويكتفي بمصافحة المعزين صامتاً.
ألجمت الفاجعة رائد حجراً فتركته يصارع الفاجعة وقد فقد أكثر من نصف أسرته .
وكان رائد قد تزوج 3 مرات حيث أنجب أطفاله من الزوجة الثالثة بعد 13 سنة من الزواج وبعد جهد جهيد من العلاج .
وقال احمد ابن شقيق رائد لـ "الرسالة نت" إن جاره شاهد النيران والدخان يتصاعدان من البيت فنادى عليه .
وأضاف: "أسرعت أنا وعمي للبيت وحاولت الدخول لكن النار والدخان منعنا من الاقتراب ثم كسرنا الشبابيك ثم خرجت أم الأطفال تصرخ وتقول هناك ابنتها في الحجرة الثانية" .
تمكن أحمد من الولوج للمنزل عبر احد النوافذ بعد أن حطمها وما أن دلف للبيت حتى شاهد ثلاثة جثث لأطفال متفحمة .
عن ذلك يتابع: "تمكن ابن عمي الثاني من القفز قبلي و إنقاذ الطفلة الرابعة وعندما تسلقت عمود الكهرباء وقفزت وصلت لحجرة الأطفال وجدتهم على الأرض جثثاً متفحّمة ! فقال عمي أنقذهم ! فقلت له الله يرحمهم لا يوجد فيهم نفس ! ".
وفي معرض رده عن شعوره بمشهد الأطفال الشهداء يجيب:" شعوري؟! لا أستطيع وصفه! أقول فقط حسبنا الله ونعم الوكيل .. " .
أما السيّد عصام بشير وهو أحد أبناء عمومة الأب رائد فقد بدا أكثر تماسكاً وقدرة على إجابة عدد من الصحفيين عجزوا عن إجراء مقابلة مع والد الشهداء.
وقال عصام إن الأم اضطرت لإشعال شمعة بعد أن انقطعت الكهرباء مضيفاً: "نحن في غزة نعيش مأساة، فلا يوجد بنزين ولا سولار ولا كهرباء ولا وقود والعالم يتفرج علينا" .
ورأى في استشهاد الأطفال الثلاثة مصيبةً كبيرة بينما علّق بمزيد من الأسى على إمكانات الدفاع المدني المتواضعة التي جاهدت لتقديم المساعدة بعد فوات الأوان .
شاهد على الرحيل
يطلّ المنزل بهامته المحترقة على مئات المعزين الذي احتشدوا للتعزية قبل تجهيز الأطفال للدفن.
الوجوم سيّد الموقف والصمت مطبق أكثر من عادته في مثل هذه المناسبات الأليمة فالفاجعة أكبر من كل وصف .
اعتذر احمد بشير لأحد أقاربه الذي دعاه لمقابلة بعض المعزين بالقول إنه لا يقوى على إعادة الرواية والقصة .
صمت أحمد دقيقة ثم انخرط في حوار هادئ مع ابن عمه علاء الشاهد الثاني على الحادثة .
سأل علاء: "هل حملتهم بعد أن استشهدوا ؟ , فرد أحمد: كانوا ملتصقين في بعضهم البعض ولما رفعناهم كانوا عظام متفحّمة" .
وأعاد علاء بداية القصة حين أضاف:" شغّلت مولد الكهرباء قرابة الساعة الثامنة ولم يكن هناك شيء فماذا سأزيد على كلام أحمد !! " .
يتحامل علاء على نفسه أمام طلب "الرسالة نت" له بشاهدته على الحادث فيحرك عينين محمرتين في محجريهما، وأضاف: "أحضرت كشاف ضوئي وصعدت مسرعاً للبيت فوجدت عمي رامي يحاول كسر الباب –يختنق صوته- ثم دخل أولاد عمي الثاني من الشبابيك لإنقاذهم لكن الأطفال كانوا متفحّمين".
شاهد علاء الأم وطفلتها في حالة اختناق فأسرع مع وصول عربة الإسعاف والدفاع المدني لنقلهما إلى مستشفى شهداء الأقصى حيث أجروا لهما غسيل معدة.
وفسّر تتابع الأحداث حين أكد أن الأم لما شعرت بتصاعد الدخان والنار أحست باختناق فحاولت النهوض لكنها وصلت بعد أن فارق الأطفال الحياة .
يهزّ علاء رأسه معلّقاً على بشاعة الحادثة ويضيف: "في غزة من المحتمل أن ترى كل شيء ! , قصف .. دمار.. حرب .. كل شيء!" .
الرحلة الأخيرة
أمام المنزل المحترق وضع بعض الشبان ثلاثة نعوش متراصّة فوق كل واحد منهن "بطانية" لتضم أجساد الشهداء الصغار وهي في طريقها إلى المقبرة .
الكلمات المتبادلة على باب المنزل كانت قاسية للغاية فأحدهم بدأ بوصف بقايا الأشلاء الملتصقة بالحجرة وآخر علّق على تصدّع السقف من قوة النيران وآخر رجح ما رآه بأنه آثار للدماء.
تجمّع الأقارب قبيل أذان الظهر وحملوا الثلاثة الصغار نحو مسجد الأنصار وهناك أتى للصلاة رئيس الوزراء الفلسطيني إسماعيل هنية ووزراء وشخصيات أخرى للمشاركة في التشييع .
وألقى هنية كلمة قبيل انتهاء الدفن قدم فيها التعازي لآل بشير، معتبراً الأطفال شهداء الحصار والمؤامرة المتتالية على غزة .
وأضاف: "وصلنا لحد لا إنساني من قطع الكهرباء والوقود وعاد الناس لوسائل بدائية تخلّف مثل هذه الفواجع ".
وحمّل هنية باسم حكومته وشعبه الاحتلال الإسرائيلي المسئولية الكاملة عن الجريمة المستمرة تحت عصا أمريكية غليظة تقف أمام كل من يقدم ماء الحياة –كما قال .
وتكفّل بمنح أسرة بشير حقوق الأطفال كاملة كشهداء لهم كافة الحقوق.
كما لم يعف الدول العربية من تحمل مسئولية معاناة غزة وسط حالة الصمت الطويل على الموت البطيء .
وأكد أن استشهاد الأطفال الثلاثة رفع عدد شهداء الحصا لأكثر من 360 شهيداً في ظل تواطؤ عربي ودولي لا يضرهم بقاء مليون و800 ألف مواطن تحت الحصار .
ولا أحد يدرى هل ستكون الرائحة التي تصاعدت من أشلاء "نادين وفرح وصبري" الناعمة كفيلة بإنهاء معاناة غزة من نقص الوقود أم أن للحكاية فصول أخرى ؟! .