قائد الطوفان قائد الطوفان

بين هجرتين

رشا فرحات

قبل ثلاثين عاما وحين قرر أبي الرحيل من بيت والده القديم القابع بصمود على أعتاب المخيم لم يفكر أبي بمعنى الترحال، لأنه لم يذق مرارته ربما، وذاق. 

فكر في اغتنام رحلة يبدأها شاب مثله في مقتبل العمر هاربا من فقر المخيم وأوجاعه إلى دولة خليجية في أوج ازدهارها؛ ليبحث عن غنائم ويجمع الأموال.. هو ابن المخيم الذي تعقدت أيامه بأكياس الطحين، وأكياس أخرى بيضاء كبيرة تأتي بها أمه كل عام من مكتب التموين، وتنثرها أمام أعينه وإخوته، فيبحث في طياتها عما يكسو به جسده، فيجد أو لا يجد.

كنت ابنة ثلاث سنوات حين قرر أبي الرحيل واعدا أمي بالعودة ليأخذنا معه بعد عامين، وملقيا نظرته الأخيرة على وجه جدي.. وجه جدي الذي يخلو من تعابير: لا فرح يرسم ولا حزن، ولا يتحدث أيضا، فقلما قال كلمة، وإذا قال كانت كلماته مخيفة رنانة في الأرجاء.

 دون وعود لجدي رحل أبي، فلا وعود محققة للاجئين، ولم يعد جدي يثق بالوعود، فهو الذي خرج في ذات صيف هاربا يجر وراءه آلاف الرؤوس لأنه كان مختار القرية.. يلبس قفطانا سكري اللون، ويرتدي ملامح الثبات والصبر التي كانت قد ضاعت مذ ضاعت شجرة الزيتون، وأرض خضراء يزرعها فيتباهى أمام رفاقه بأنه أكثرهم ملكا.. رحل في ذلك الصيف تاركا وراءه كل ما ترك.

في ذلك اليوم رحل أبي وبقيت وعوده ترن في أرجاء البيت وتصبر أمي وعيناي تحدقان إلى ذلك الراحل.. لا أفهم سوى لعبة تفترش جسدها في قاع الدار، وبساط افترشه وأمي المسكينة، وأخي، فننام أو لا ننام، وفقر وجوع لا تلمح فيه إلا بعض أمل وفرح يتجلى بجدتي الحنون التي تزرع "أكواز" الذرة في حوض صغير في قاع الدار لنفرح بها صيفا كأننا نغتنم، وتزور القدس كل شهر فتعود إلينا فرحة وقد مرت بأرض قديمة كانت يوما لجدي الصامت المحدق في المجهول.

تقطع جدتي كل يوم قطعتين من ملبن حلو الطعم قالت إنها أتت به من الخليل، فتضع في فمي قطعة، وتعطي أخي قطعة أخرى، فنتذوق فيها حلاوة الدنيا الصغيرة التي نعيشها قبل أن تجلس بثوبها المطرز على باب البيت الذي يحمل بين جدرانه أوجاعها.

عاد أبي فجأة بعد سنتين.. كان وعده محققا.. سمعت خفقات قلب جدي وملامح الرعب ترسم على وجهه للمرة الأولى حين قال أبي إنه سيصطحبنا معه للحياة هناك، فالحياة هناك خيّرة، والشوارع جميلة، والناس يأكلون طعاما نظيفا ويلبسون ملبسا محترما.. كل ذلك قاله أبي وجدي يهز رأسه صامتا ويجلس بجلسته الفارعة المليئة بالعزة دون أن يكترث.. بينما فرحت أمي وألبستنا ما راق لها من الهدايا التي قدم بها أبي من أجلنا، فغدونا محط أنظار كل أطفال المخيم، وبدأت تحضر حقائب سفر.. أذكرها تماما.. فيها حملت بعض ذكريات الطفولة، وصورة جدي القابع وحيدا برفقة جدتي أمام الباب دون دموع، وفرحة تغلف وجه أمي وأمل بمستقبل أفضل.

لم يكن جدي ذلك الرجل المنهزم.. رأيت الهزيمة في وجهه ذلك اليوم.. أذكر كلماته الممزوجة بالرجاء وهو يحتضنني بيديه دافعا كل حنانه بين أضلعي.. كان ذلك ليلة رحيلنا حين سمعته يردد على مسامع أبي: "لو أخدت ولادك ورحت راح أموت.. لو أخدت ولادك ورحت راح أموت".. لم يكن أبي يضيف شيئا سوى: "الله يعطيك الصحة يا حج ويديمك فوق راسنا يا رب"، وكأنه لم يكن بتوقع تحقق ذلك التنبؤ، وجدي الذي لم يعد يحتمل فراقا أكثر صدق وعده هذه المرة، فقد رحل ساجدا بعد شهر من رحيلنا.

البث المباشر