قائد الطوفان قائد الطوفان

مقال: كيف تنظر البي.بي.سي إلى غزة عبر النظارة الصهيونية؟

للناشطة البريطانية: أمينة سليم*

الرسالة نت-ترجمة خاصة

أن تشاهد، أو تقرأ، أو تستمع، لتقرير هيئة الإذاعة البريطانية الـ بي.بي.سي، حول الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، هو مثل النظر إلى الوضع من خلال نظارة صهيونية، لا تحرف الواقع فحسب، بل تتبنى النسخة الإسرائيلية المشوهة تماما حول هذا الأمر.

في هذا العالم المقلوب، والذي قُدم إلينا من قبل وسيلة إعلامية، لها قاعدة جماهيرية عريضة، قيل لنا مؤخراً، بأن " الشعب المحاصر في غزة قد أصبح معتاداً بشكل طبيعي، على العنف الذي لا يتوقف، والحرمان والحصار الإسرائيلي، في حين أن سكان جنوب إسرائيل يواصلون الشعور بالقلق والرهبة عندما تطلق تلك الصواريخ البدائية على أحيائهم السكنية" !!

تلك الادعاءات الغير طبيعية، ذكرت في مقالين، تواجدا في ذات الصفحة في موقع البي.بي.سي الالكتروني، جاءا بعنوان: (بين اشتباكات غزة وإسرائيل:وجهة نظر من كل جانب)، نشر الشهر الماضي.

لقد كان التقرير مغلفا تماما بموقف البي.بي.سي العام تجاه الاحتلال: تغطية غير منتظمة، افتقار إلى الحقيقة والصدق والنزاهة المهنية.

قبل الشهر تقريبا، بعد أن قصفت إسرائيل غزة بشكل عنيف ومستمر مدة أربعة أيام، قتلت خلالها 27 فلسطينيا بينهم أطفال في سن السابعة، عنونت البي.بي.سي تقريرها حول الحدث بالعنوان التالي: "الغزيون يعتادون على الصراع".

هذه التغطية الرهيبة، التي حررها مراسل البي.بي.سي في غزة روبرت وينغفيلدهايز، تقول لنا بأن شعب غزة قد اعتاد -ببلادة- على عمليات القتل الجماعي من قبل الغارات الجوية الإسرائيلية، واعتاد على تدمير منازله  بطائرات الأف-16، واعتاد على المعاناة التي يسببها الحصار شبه الكامل، واعتاد على القيود المفروضة على حريته وحركته، ناهيك أيضا أنه اعتاد على الإرهاب اليومي الذي تسببه الطائرات بدون طيار، والتي تحلق فوق رؤوس سكانه!!.

لا يوجد دليل

صحفي خبير، كـ وينغفيلدهايز، لا يقدم أي دليل في تقريره من مصادر رسمية مثل الأمم المتحدة أو المركز الفلسطيني لعلاج الصدمات، والذين يقدمان تقارير واقعية ومفصلة، حول المستويات العالية من مشاكل الصحة العقلية بين السكان، كما انه لم يجري أية مقابلة مع أي فلسطيني من غزة، قال له أنه أصبح "معتادا" على القنابل الإسرائيلية التي تسقط على منزله، وتحرق أفراد عائلته، على الأقل لتدعيم عنوان تقريره المليء بالادعاءات.

أساس أدعائه، بينما يكتب تقريره جالسا في إحدى الشقق في غزة، هو انه في الوقت الذي تحوم فيه الطائرات الإسرائيلية، فوق رؤوس الغزيين، فإنه يرى المارة يمشون في الشوارع، وكذلك السيارات تمشي كالعادة، والمحلات التجارية تبقى مفتوحة.

وبسبب ذلك، بسبب أن الناس ما زالوا يحاولون البقاء على قيد الحياة من وسط الدمار، فإن البي.بي.سي، تقدمهم لنا بأنهم "معتادون" على العنف والظلم الذين ينهالان عليهم يوميا.

هذه الوسيلة الإعلامية الممولة من دافعي الضرائب في بريطانيا، تستكثر على الفلسطينيين حتى نعمة تقاسم المشاعر البشرية من الإحباط، والإرهاب، والتوق إلى الحرية، والتي ينعم بعكسها تماما كل مخلوق على وجه المعمورة، فبوصفها الفلسطينيين بأنهم "معتادون" على تلك المشاعر، يعني أنها تعتبرهم أقل من البشر.

جعل الحصار مخفياً

وينغفيلدهايز يجعل الحصار الذي تمارسه إسرائيل منذ أكثر من ستة سنوات غير مرئي، وذلك بعدم الوصف –ولو الموجز- لحالة اليأس التي يواجهها الفلسطينيون في غزة، من نفاد إمدادات الوقود وغاز الطهي، والكهرباء التي لا تتوفر إلا ست ساعات كل 24 ساعة، والمستشفيات التي اضطرت إلى إلغاء عملياتها الجراحية، والمدارس والجامعات التي أصبحت على حافة الإغلاق، والعائلات التي لجأت إلى الشموع، وأفران الطين القديمة، وتشعل القش والخشب، لطهي طعامها.

هل لأن الكتابة بصدق حول الحصار وآثاره قد تثير التعاطف مع الفلسطينيين، وتصطدم مع الصورة التي تريدها "إسرائيل" لوسائل الإعلام، وهي أنها تواجه سكاناً إرهابيين يهددون أمنها؟.

أم أنها رغبة لتلميع وجهة نظر إسرائيل التي تتغنى بها دائما: أنها وبحسب القانون الدولي فقد أنهت احتلالها لغزة منذ  العام 2005؟ فلماذا تتحكم في معابره التجارية حتى هذه اللحظة إذا؟

صادم وغير كفؤ

ومع ذلك، سأل وينغفيلدهايز، وعلى نحو –غير اعتيادي- أخيرا أحد المواطنين الفلسطينيين، السؤال التالي: "ماذا تعني حين تقول أنك تناضل ضد الاحتلال؟"...وينغفيلدهايز يسأل رجلا لا يملك حرية التحرك خارج مساحة أرض لا تتعدى 25 في 4 أميال، ولا يملك حتى أي جانب من جوانب الحياة، بما في ذلك معرفته إن كانت ستسمح له إسرائيل بالحصول على ما يكفي من الطعام، ليبقي عائلته على قيد الحياة، ناهيك أن وينغفيلدهايز، كان يصر على الرجل في سؤاله بعبارة : "حتى بعد انسحاب إسرائيل من غزة عام 2005؟، ستستمر بالنضال؟؟"

هذا أمر يبعث على الدهشة والصدمة، آخذين في عين الاعتبار فشل وينغفيلدهايز في ذكر الحصار الذي يهيمن على حياة ذلك الرجل، وهذا أمر غير كفؤ صحفيا.

وبالطبع فإن الرسالة الضمنية المرسلة إلى القراء، عبر هذا التقرير الذي يرفض ذكر الواقع البائس في غزة بسبب نظريات لا أساس لها سوى تخمين المراسل هي: أن الفلسطينيين في غزة، يحيون حياة الرغد، فلم القلق؟ أشيحوا بنظركم عن ذلك القطاع!!!

وإليكم التناقض الخطير في نفس التقرير الموازي للتقرير السابق، والذي سبق وأن قلت، انهما نشرا في صفحة واحدة، جاء التقرير بعنوان: "القبة الحديدية في إسرائيل تأمل" في هذا التقرير يخبرنا مراسل البي.بي.سي كيفين كونولي كيف أن "الحياة الطبيعية" في جنوب إسرائيل، "قوطعت بشكل صارخ" خلال فترات إطلاق الصواريخ، مدعما تقريره بأوصاف انفعالية وعاطفية من "القلق الذي يعانيه الإسرائيليون خلال المناظر المروعة على وقع سمع الصوت الحزين لصفارات الإنذار".

واصفا شابا وهو يبحث بمنتهى الخوف عن الملجأ، قائلا: مررت بتجربة "الشعور الرهيب" الذي يمر به سكان جنوب إسرائيل، وكيف أنهم يأملون في أن تكون القبة الحديدية "وثيقة الخلاص" من صواريخ في غزة.

ربما لا يتحدث كونولي عن أناس معتادين على الصراع..فلماذا، وفقا للبي.بي.سي، مازالوا يشعرون بالرعب والقلق، ولكن الفلسطنيين، لا يشعرون!! هل ولنه ببساطة، فإن الفلسطينيين أكثر صلابة؟ أم ربما لأن طائرات الأف-16، والأباتشي والدبابات المدرعة والطائرات بدون طيار، التي تحوم فوقهم وتحتهم غير مخيفة بقدر الصواريخ التي تصنع في المنازل،  وتبث الرعب في نفوس الإسرائيليين؟

مغادرة بلاد العجائب

تقرير كونولي يركز على صورة إسرائيل تدافع عن نفسها من السكان المحاصرين اللاجئين في غزة، تماما كما هو الحال مع تقرير وينغفيلدهايز، الذي يدعي "وجهة النظر من كل جانب"..ليس هناك أي ذكر لحقيقة أن إسرائيل تحتل وبشكل غير قانوني غزة، خاضعة إياها تحت حصار محكم منذ ستة أعوام، وقد ارتكبت مجزرة  قتلت فيها 1400 مدني خلال ثلاثة أسابيع ما بين العامين 2008-2009، ويطلق جنودها المتمترسون وراء أبراج المراقبة النار على الأطفال الفلسطينيين الذين يجمعون الركام، ومن الزوارق الحربية على الصيادين  الذي يحاولون صيد السمك لإطعام عائلاتهم الفقيرة، وليس هناك أي ذكر بتاتاً حول انتهاك إسرائيل للقانون الدولي كل يوم في السنة في ما يتعلق بغزة والفلسطينيين.

يتحدث كونولي عن مستويات "التوازن العسكري" بين الإسرائيليين (الممولين بمساعدات عسكرية أمريكية تصل قيمتها إلى أكثر من 3 مليارات دولار سنويا) والفلسطينيين (أولئك الناس البسطاء، الذين لا دولة ولا جيش لهم)، وينغفيلدهايز يلمح بمقابلته رجلا تحول بيته إلى ركام إثر غارة جوية، إلى أن الفلسطينيين قد جلبوا إلى أنفسهم العقاب الجماعي، بسبب الوقوف في وجه إسرائيل، ورفضهم الاحتلال.

وكصحفي يعمل في البي.بي.سي ويطلب منه أن ينظر عبر النظارة الصهيونية، فإنه لم يخبر جمهوره -بالطبع- أنه بموجب اتفاقية جنيف، فإن العقاب الجماعي غير قانوني أو أن القانون الدولي يمنع الشعوب من نضال ومقاومة محتليها.

وللقيام بشيء مشابه عليك أن تترك أرض العجائب، وأن تنزع تلك النظارة لتقفز إلى الواقع الملموس، و هذا شيء لن تستطيع البي.بي.سي فعله، بما لديها من تغيير وتحريف للحقيقة لصالح إسرائيل، إنها ذات المؤسسة الإعلامية، التي حذفت كلمة فلسطين، من برنامج "بي.بي.سي إكسترا الإذاعي" بحجة أن فلسطين لا وجود لها"، ومع وصول البي.بي.سي إلى كل ركن من أركان المعمورة، فإن هذا العجز -أو عدم الرغبة- لشيء يجب أن يشغلنا ويقلقنا جميعا.

* أمينة سليم، ناشطة فاعلة في حملة التضامن مع فلسطين فرع بريطانيا، وترقب –عن كثب- التغطية الإعلامية للقضية الفلسطينية، وهي متخصصة في هذا المجال.

البث المباشر