قائمة الموقع

بعد عام على الحرب .. الفوسفور الأبيض لا زال يشتعل

2009-12-26T12:02:00+02:00

 

د.أبو شعبان: لا نعلم آثاره المستقبلية

د.الغلاييني : نسبة الإجهاض ارتفعت بعد الحرب

الصحة: الاحتلال يخطط لإبادة الأجيال القادمة

غزة- محمد أبو قمر

ما أن أنهى العاملون في بيارة الريس إلى الشرق من غزة تجميع بقايا الأشجار التي دمرها الاحتلال خلال الحرب على عربة كارو ليشقوا طريقهم إلى المدنية فإذا بالنيران تنتشر شيئا فشيئا وتجهز على العربة بأكملها.

لغز لم يفاجئ العاملين كثيرا عندما تبين أن بقايا قطع فوسفور كانت عالقة في الأشجار وما أن تعرضت للهواء حتى عادت للاشتعال من جديد.

ورغم انطواء عام من الحرب إلا أن الفوسفور الأبيض لازال مشتعلا في ظل الإنذارات المتسارعة من آثاره الكارثية على المدى المتوسط والبعيد.

آثار مستقبلية

وقد وجد عبد السلام الجدبة صعوبة في انتشال بقايا الفوسفور من أرضه الزراعية التي طالتها تلك القذائف الحارقة ، حيث قال " بقايا الفوسفور شبيهة بقطع الإسفنج وفي حال تعرضت للهواء تعود للاشتعال من جديد " ، موضحا أنهم عمدوا على دفنها بالتراب لإخمادها.

وأضاف الجدبة: " في ذات مرة أزحت التراب عن الفوسفور وفركته بقدمي فعاد الدخان للتصاعد منها".

وعلى ما يبدو أن قوات الاحتلال استخدمت قذائف الفوسفور الأبيض منذ الشرارة الأولى للحرب إلا أن الأطباء اكتشفوا أن الاحتلال استخدم تلك الأسلحة القاتلة مؤخرا.

ويقول الدكتور نافذ أبو شعبان رئيس قسم الحروق بمجمع الشفاء الطبي الذي عج بإصابات الحروق طوال أيام الحرب: " وصلتنا عشرات حالات الحروق في الأيام الأولى للحرب ، وكنا نداوي الحروق الطفيفة ونعيدهم للمنازل لإفراغ القسم للحالات الحرجة ، لكننا تفاجأنا بعودة تلك الحالات ولديها مضاعفات شديدة وبعضها توفيت رغم أن الحروق طفيفة" .

بقي ذلك اللغز محيرا للأطباء في غزة لوقت متأخر حتى أكدت الوفود الطبية العربية والأجنبية التي وصلت غزة وقت العدوان وكانت قد شهدت حرب لبنان في 2006 ، بأن تلك الحروق ناجمة عن قذائف فوسفورية استخدمها الاحتلال في حربه على لبنان.

ويشير أبو شعبان في حديث خاص "بالرسالة" إلى أنه من تلك اللحظة بدأ الأطباء يتعاملون مع حروق الفوسفور بشكل مختلف ، وذلك بتنظيف جميع بقاياه من جسد المصاب ، لأنه يبقى مشتعلا طالما بقي معرضا للأكسجين.

وبحسب أبو شعبان فان عملية الحرق تبقى مستمرة حتى تبخر الفوسفور بشكل كامل وذلك يسبب حروق عميقة تصل العظم أحيانا ، كما أن تلك المادة سامة ومن لم يمت من الحرق يموت من التسمم، ويزداد الخطر على حياة المريض كلما زادت مساحة الحروق.

ويخشى أبو شعبان من الآثار المستقبلية للفوسفور على حياة من تعرضوا له، مشددا على أن المراجع الطبية لم تذكر مضاعفاته على المدى الطويل لان الفوسفور لم يستخدم ضد الإنسان على مدى واسع وبالتالي تغيب الأبحاث في ذلك المجال ولا يعلم الأطباء آثاره على المدى البعيد.

ويضيف: " لا يمكن التوقع بآثار الفوسفور المستقبلية هل سيتسبب بمشاكل بالكبد أو سرطانية ، أو يؤدي لنقص الخصوبة ، أو مشاكل بالأعضاء الداخلية.

وجدد رئيس قسم الحروق مطالبته المؤسسات العالمية أخذ عينات من المرضى للتعرف على التغيرات التي طرأت عليهم لاسيما أن الإمكانيات في غزة محدودة في هذا المجال ، مشيرا إلى أن البعض أخذ عينات لكن لم يمنحوهم أية تقارير مفصلة حتى الآن.       

** تشوه الأجنة

وتدق التقارير الدولية والطبية المتخصصة ناقوس الخطر من انعكاسات الفوسفور وآثاره على الصحة العامة.

وقد حذر تقرير ايطالي صدر مؤخرا من تأثيرات على صحة السكان في المدى المتوسط والطويل، وذلك بعدما كشف أن قوات الاحتلال أطلقت 3500 قذيفة فوسفورية خلال العدوان.

واستند التقرير الذي صدر عن "مجموعة الباحثين حول الأسلحة الجديدة" التي تضم علماء وأطباء وتهتمّ بدراسة تأثيرات الأسلحة غير التقليدية على سكان المناطق المتأثرة بالنزاعات المسلحة إلى نتائج تحليل عدد من الحفر التي خلفتها القذائف الإسرائيلية في قطاع غزة.

وكشف التقرير وجود تركيزات عالية بالمعادن الثقيلة التي تسبب أوراماً، ومشاكل في الخصوبة لدى البالغين، كما يمكن أن تؤدي إلى تأثيرات خطيرة على حديثي الولادة كالتشوّهات والأمراض الوراثية. ولعل تلك التحذيرات بدأت تشق نتائجها على الأرض حيث شدد الدكتور بهاء الغلاييني مدير مركز بسمة للعقم وأطفال الأنابيب على وجود شواهد تدلل على تأثر المبايض لدى النساء بهذه الأسلحة .

وقال الغلاييني "للرسالة" : يوجد نسبة عالية من التشوهات في البويضات لدى النساء التي تبدو بوضع غير طبيعي كما زادت نسبة الإجهاض لديهن .

واستند الغلاييني في حديثه إلى مقارنته لنسبة الإجهاض والتشوهات قبل الحرب وبعده ، ولم يستبعد أن يكون ذلك ناتج عن استنشاق النساء للهواء المعبأ بالفوسفور وقت الحرب أو تكون آثار تلك المعادن السامة التربة انعكست على الصحة العامة.

ورأى الغلاييني أن ذلك بحاجة لدراسة طبية متخصصة يتم من خلالها التحقيق في الأجواء التي عاشتها النساء وقت الحرب وتعرضهن للغازات السامة من عدمه، وعلاقة ذلك بمكان سكناهم إذا كان قريب من المواجهة أو بعيد عنها.

ناقوس الخطر

والتف الأطفال في أحد شوارع المنطقة الشرقية في غزة التي كانت مسرحا لعمليات الاحتلال حول بقايا الفوسفور واتخذوها لعبة للهو قبل أن يتفرقوا من حولها فارين عقب بدء اشتعالها.

وتدلل تلك الحوادث على أن آثار الفوسفور لازالت باقية ولم تنطفئ بعد مرور عام ،وفي هذا السياق أكد الدكتور معاوية حسنين مدير عام الإسعاف والطوارئ بوزارة الصحة أن عدد الأجنة المصابة بتشوهات خُلقية نتيجة استخدام سلطات الاحتلال الإسرائيلي خلال الحرب الأخيرة على قطاع غزة الأسلحة الـمحرمة دولياً مثل الغازات السامة والقنابل الفسفورية وقذائف الدايم وصل إلى نحو 50 حالة تشوه خلال الأشهر الخمسة الأخيرة، مشيراً إلى أن العدد مرشح للزيادة إلى ثلاثة أضعاف هذا العدد.

وأوضح حسنين في حديث صحفي أنه نتيجة استخدام إسرائيل هذه "الأسلحة" تبيّن من خلال الفحص الطبي وجود عشرات الـمصابين بالعقم بعد قتل حيواناتهم الـمنوية، وسرطان الرحم عند النساء اللاتي تعرضن بشكل مباشر لـمثل هذه الأسلحة.

يذكر أن محللين عسكريين أكدوا عبر شبكة الإنترنت أن قذائف الدايم تنتج عنها انفجارات هائلة وغير اعتيادية ضمن منطقة صغيرة، وتؤدي إلى تأثيرات بيولوجية جسيمة.

وأضاف حسنين: إن النساء اللواتي حملن خلال الحرب أو اللواتي كن يحملن في شهورهن الأولى وتعرضن بشكل مباشر لخطر الإصابة بالغازات الـمنبعثة من هذه الأسلحة تعرضت أجنتهن لتشوهات خلقية داخل أرحامهن، مؤكداً أن وزارة الصحة استقبلت وما زالت تستقبل يومياً العديد من الأجنة الـمشوهة سواء في الدماغ أو الرئتين أو القلب أو الأطراف السفلية والعلوية، رغم إمكانيات الوزارة الضعيفة في التشخيص والعلاج.

ولفت إلى أن فترة الحرب وما بعدها شهدت عشرات من الولادات الـمبكرة والنزيف المبكر في الأشهر الأولى.

ومع توالي التقارير المحذرة من الآثار الكارثية للفوسفور رغم مرور عام على الحرب قالت

مؤسسة الضمير لحقوق الإنسان أن هناك خطرا صحيا وبيئيا يواجه قطاع غزة، حيث أدى استخدام الاحتلال للأسلحة المحتوية على مواد سامة ومشعة إلى ارتفاع عدد المواليد المشوهة ومعدلات الإجهاض المبكر والأمراض السرطانية.

وبينت الضمير بروز ظواهر خطيرة وغير طبيعية في قطاع غزة بعد عام من العدوان مما يزيد من أوضاع حقوق الإنسان تدهوراً في قطاع غزة ، ويبقى صحة مليون ونصف مليون فلسطيني معرض للتأثر بها في أي لحظة،إضافة لتلوث جميع مكونات البيئة الأساسية من مياه وتربة وهواء التي تعاني من تدهور خطير أصلاً

سجل قاتم

ويفتح استخدام الفوسفور الأبيض ضد الغزيين سجل قوات الاحتلال القاتم في استخدام أسلحة فتاكة في عملياتها العسكرية بالقطاع .

وكان الاحتلال قد أطلق خلال السنوات الماضية غازا ساما في مدينة خانيونس على وجه التحديد جنوب القطاع أدى لإصابة المواطنين بنوبات عصبية فجائية حادة، ودار الحديث حينها عن استخدام الاحتلال لغازات سامة جديدة لم يكن يستخدمها من قبل.

وقال وزير الصحة الدكتور باسم نعيم: "كنا نتوقع استخدام العدو لكل الأسلحة المحرمة دوليا في حربه على الشعب الفلسطيني وخاصة أن أطباءنا منذ سنوات يشيرون إلى ظواهر جديدة بدأوا  يلحظونها على الجرحى ولم يسجلوها من قبل وأهمها أن الجرحى رغم تقديم كل ما يلزم لعلاجهم وتحسن أوضاعهم في الساعات الأولى إلا أن حالتهم تتدهور بشكل متسارع ينتهي بالشهادة دون أي أسباب ظاهرة للخبراء".

ويتابع نعيم:" لكننا لم نكن نتوقع أن المجرمين يخططون لإبادة الأجيال القادمة من خلال تدمير قدرتهم على الإنجاب أو تشويه الأجنة أو تسميم المياه والمحاصيل ونشر الأوبئة والأمراض".

واعتبر وزير الصحة التقرير الايطالي بمثابة رأس الهرم الجليدي لجرائم الاحتلال النكراء، مطالبا بإرسال خبراء مختصين للكشف عن باقي معالم الجريمة سواء من المؤسسات الأهلية أو الدولية.

ودعا نعيم كل الوفود التي وصلت إلى القطاع بعد الحرب وأخذت عينات من تربة القطاع أو جثامين الشهداء أن تكشف عن حقيقة النتائج التي توصلوا إليها وألا يستسلموا للضغوط الصهيونية ، وقال: "نطالب المجتمع الدولي وخاصة مؤسساته المعنية بهذا الشأن أن ترسل الخبراء لمساعدة الحكومة الفلسطينية والمؤسسات المختصة لوضع الخطط لحماية الشعب الفلسطيني وخاصة الأجيال القادمة من آثار تلك الجرائم".

تدمير الزراعة

ولم يقف تأثير الفوسفور على الإنسان فحسب بل امتد إلى الأرض والتربة فالى الشرق من غزة وفي محيط جبل الريس لاحظت "الرسالة" اصفرارا في الأشجار المزروعة في الأراضي التي أصابتها قذائف الفوسفور خلال الحرب.

ويعزو المزارعون إلى حاجة تلك المزروعات لعناصر تقوية كالحديد ، مما يؤكد أن  القذائف الفوسفورية أفقدت التربة مقوماتها الزراعية.

وتقول الدكتور بتولا ماندوكا المتخصصة في علم الوراثة في جامعة جنوى والباحثة ضمن الفريق الايطالي أن هناك اختلافا في تحليلات التربة بعد الحرب والعينات السابقة التي أجريت في العام 2005  حيث يظهر ارتفاع كبير في تركيز عدد من المعادن الثقيلة، التي لم تكن موجودة في الماضي، ما يعني أن مصدرها هو القذائف "الإسرائيلية".

وقام الفريق بتحليل عينات من أربع حفر خلفتها القذائف اثنتان تشكلتا خلال هجمات إسرائيلية في تموز العام 2006، في بيت حانون ومخيم جباليا، واثنتان خلفتهما الحرب الأخيرة في كانون الثاني العام 2009 في حي التفاح في ضواحي مدينة غزة ، فكان هناك اختلاف في نتائج تحليل كل حفرة بحسب ماندوكا، ما قد يعني وجود أنواع مختلفة من القذائف سببت هذه الحفر.

كما رصد الفريق للمرة الأولى مادة الموليبدينوم (Molybdenum)، وهو عنصر نادر جداً في التربة وجد في جميع الحفر بتركيز عال جداً يتجاوز المعدلات الطبيعية بما بين 25 إلى 3000 مرة،وهذا المعدن سام جداً للحيوانات المنوية، ويؤثر سلباً على الخصوبة كما على الأجنة.

وبناء على تلك النتائج تبدي ماندوكا قلقاً بالغاً من حجم التلوث التي يمكن أن تكون هذه القذائف قد أحدثته في القطاع، ومن تأثيراتها المتوسطة والطويلة الأمد على صحة السكان،لاسيما وأنها كانت تنفجر في الجو قبل الوصول إلى الأرض، ما يعني انتشاراً على نطاق واسع للمعادن التي كانت تحتويها.

وكانت وزارة الزراعة قد أكدت أنها اضطرت بعد توقف العمليات العسكرية إبان حرب الفرقان، إلى منع الزراعة في الأراضي الزراعية والآبار التي تعرضت للقصف وحذرت من الرعي وتربية الحيوانات فيها, وأوضحت بأن خطوتها تؤكد على استخدام الاحتلال لقذائف فسفورية تحمل مواد مُشعة ومُسرطنة وسامة، ما يجعل المناطق المستهدفة موبوئة وخطرة على صحة الإنسان والحيوان ومؤثرة بشكل مباشر في البيئة.

وأشارت أنه لم تمض على الحرب أشهر إلا وبدأت تظهر الشواهد على استخدام الاحتلال في حربه المدمرة أسلحة محرمة مثل الطفرات الجينية على النباتات وظهرت النموات الجديدة مشوهة وصفراء، لافتة إلي أن بعض المناطق الزراعية التي تنبت فيها الأعشاب والنباتات أصبحت قاحلة، في حين جفت الكثير من الأشجار ، وذلك في مناطق المعارك العسكرية.

ومع استمرار اشتعال الفوسفور وآثاره على الإنسان والبيئة تبقى الأسلحة المحرمة دوليا بحاجة إلى دراسات معمقة لمعرفة آثاره المستقبلية وسبل تفاديها.. ويبقى الفسفور بعد عام على الحرب مشتعلا.

 لمتابعة ملف الحرب

 

اخبار ذات صلة