بقلم الأسير القائد : أحمد المغربي
يوم يبدأ بطرقات الأبواب المفزعة وصيحات الأفواه المستعرة ونسمات الصيف الحارة التي تنسل من شباك يرمي بظلال قضبانه الباهتة المتشابكة "بعوض صراصير نمل" كلها مجتمعة تجوب صاعدة توقظ غفوتنا أحلام تذهب أدراج الرياح كسراب صيف يحسبه الظمان ماء ، جدران وحيطان كاحلة اللون مقيتة تلتف حولنا تسقف رؤوسنا كظل لا يفارق صاحبه ، نحيا ونموت ولا تزال قائمة مكانها تأبى الفراق وفاء منها بنزلائها نحتمي بفيئها من لظى الحر نستدفئ بحضنها من زمهرير البرد ،علاقة تشتد أواصرها ويمتد أمدها بطول الحكم والبقاء، سمائها فارغة كصحراء خاوية جرداء قاحلة ممتدة الأطراف .
غرفة مستطيلة الشكل والبنيان تحبس أنفاسنا وتحصيها عددا أرواحنا مأسورة محبوسة بين أركانها ،أجسادها هامدة ممتدة كألواح خشبية ،الأطراف متيبسة الأوضار تأن من الجراح نفوسنا مثقلة بعموم وأشجان وامال تصبو وترنو نحو حلم ينتظر بزوغ فجره من بين الأنقاض يتسلل يشف طريقه عبر الظلمات يتخطى الحواجز يحطم السلاسل والقضبان يتلألأ في السماء يكتب بحروف من نور "الحرية للسجين والإنسان" النظر محروم مقهور بين أرجائها يجول بين الأركان مبتدأ من الزاوية الأولى منتهيا عند الرابعة هكذا كرات ومرات، يعاتبني قائلا أين الأفق ومداه ؟؟!! أين الشمس ونور إشراقها وشفق المغيب وغروبها ؟؟!! لقد اشتقت للسماء وزرقتها للغيوم الملبدة بسحبها نسيت النجوم وزينتها ، أذكر المروج والبساتين وكثرة خضرتها تشتهي عيوني ملامسة زهرة يفوح شذاها بريح الزعتر ونوار الياسمين والبرتقال ،،أستلطفه على ضيق الحال وزحمة المكان أواسيه بنعيم الجنة وخضرة الأفنان فيسبح بحمد ربه ويتذكر عتمة يونس ببطن الحوت وصبر أيوب على ابتلائه وسجن يوسف وبكاء يعقوب على فراقه وعزم محمد وقهر أعدائه.
قسوة وإذلال عبودية تجاوزت كل الحدود الإنسانية ،استحقار ونظرة دونية كلها عناوين تطالعنا كل يوم بجديد عرفت الحقد بأنواعه تشربت الذل بصنوفه عاشرت وحوش وضواري بحلة بشرية مررت على دروب السادية صعدت كل درجات العبودية .
العزل الانفرادي وما أدراك ما العزل الانفرادي ؟؟!!! أسير يعزل دون عنوان أو هوية يفقد بها محيط الإنسان وكيانه الاجتماعي يحشر بغيابات وظلمات شتى تنصب على رأسه كصيب ساقط من المزن ظلمات مترادفة الاتصال كل منها تضاهي الأخرى بحلكتها وشدة قسوتها تطبق بالأسير تطوقه تلاحقه كظله ،، ظلمة الإقصاء وظلمة انقطاع الأخبار وظلمة الداء والدواء وظلمة ضيق وعتمة المكان وظلمة السجان وظلمة الأحكام والقوانين وظلمة الجوار من عاهات ومجانين وظلمة منع الزيارات والأقارب وظلمة وحشة المكان وطول البقاء ،، ظلمات تعشق ظلمات كلما حاولت جاهدا أن تقصي واحدة أتتك الأخرى بخيلائها هكذا دواليك .. شدة وعسرة عزيمة وإرادة تتصارعان بكل حين ولحظة وكل يوم وليلة تتعاقبان كالليل والنهار صراع من أجل البقاء والحياة ،، هنا النفس تتجلى بعظمتها تفرز كل أسرارها تستنهض مكامنها الخفية التي تسطع بلحظات المحنة والكرب ،،يولد الصبر والجلد تتفتق اشراقات الأمل ونور اليقين تتصاعد مقومات الصمود والممانعة بصدق الهدف وعدالة القضية تحديات وعنفوان تشهد على أصالتنا وعزة أنفسنا ، صلافة قهر وعدوان بشاعة حقارة أدران أو سمة تبرق من جباههم وتبرز من ثنايا وجوههم وخفايا قلوبهم تنطق بصهيونيتهم وحقد حضارتهم المحفورة بالام نكباتنا واهات أوجاعنا وصرخات وعويل أمهاتنا وشلالات الدم المتدفق من الاف الشهداء والجرحى .
كلمة مكونة من ثلاث أحرف "عزل" وأيضا قتل ثلاثة أحرف كلمتان مترادفتا المعنى والهدف واحد رغم اختلاف السياق ، ما أسهل نطقها والتشدق بها وما أصعب غمارها والغوص في حياضها عقاب ما دونه عقاب ألم تأن من وطأته الرقاب ،أرواح وأجساد مسجورة محفورة بأكناف قبر تدلهم عليها الخطوب والرزايا والأرزاء قاطبة بأقسى عذاب ،ضيق عجز وخنق وقلة حيلة سمة المكان ، أسراب من الطيور الجارحة تحلق فوق رؤوسنا وهاماتنا وهوام تحت أرجلنا تنتظر بفارغ الصبر موتنا أو رفرفة راية الاستسلام لإشباع غريزتها ونعم وحشيتها .
أيام وشهور وسنين تمضي مودعة كسرعة البرق بوميضه لكنها شديدة الأثر بالغة الندب سوداء اللون ثقيلة الوطئ كحد الحسام ، القلوب تدق وتدق تتسارع وتتوالى خفقاتها بعبير الأحبة عند وميض ذكرياتها وشجون ماضيها أنهكها البعد والجفا ،صور ورسائل تضمد وتلثم الجراح تروي ظمئ نفوسنا العطشى رغم قلتها وشح موردها أتحايل على نفسي وروحي ومشاعري وإنسانيتي بأحلام اليقظة وردية اللون والملمس أتناوب عليها من حين لآخر أبلل وأرطب بها القسوة وأحي بها جذوتي القابلة للانطفاء والانزواء من طول الوحدة أتصادق معها أستحلقها بألا تفارقني وحيدا مجردا لأنها حياة ورجاء لإنسانيتي المفقودة المغيبة بعزلي وسجني الممتد الأمد" الوقت والوحدة" خطان مترابطان قلما ينفصلان عن بعضهما البعض في عالمنا الصغير بحجمه العظيم الشديد بماسيه .
عرفت بحياتي خارج دهاليز وأقبية السجن شيئا يسمى الخلوة عبادة يتقرب بها العبادة لخالقه يفرغ بعضا من وقته ويختلي بنفسه منطويا منعزلا تاركا الدنيا وما فيها رغبة وهدفا وطاعة ، أما عندنا فحدث ولا حرج الليل والنهار الصبح والمساء كلها خلوة وهنا أقصد خلوة متشعبة الأطراف والأغصان خلوة مع النفس بسيائتها وحسناتها ومتطلباتها وحاجياتها التي لا تنتهي إلا بخمود شعلة الروح وخلوة الأحلام أحلام الأسير المقهور المضطهد الذي يطح لاعتلاء صهوة الحرية والفضاء الرحب وخلوة الشوق والحنين لفلذات أكبادنا ودرر قلوبنا الأحبة والأهل وما يرادفها من حسرة وغصة تقشعر الأبدان من وقعها وأثرها ، وخلوة المستقبل الغامض المبهم المشوب بواقعنا وحالنا المزري من وقائع وأحداث تطرأ كل يوم بحلة لا ندري ماهيتها وخلوة الشرطة "الإسرائيلية" بالأسير واشباعه ضربا وقهرا وإهانة وذلا لو صبت في بحر لأفسدته من نتانتها وحقارة فاعليها ، وخلوة الوطن "فلسطين" أتطلع حولي أدقق النظر بآهاتي وعاهاتي وندوب الجروح الجسدية والنفسية التي أوغرت نفسي وبقية باثرة علامة ووساما وقس على ذلك قوافل الشهداء تتساقط بمخيلتي وشريط عقلي الباطني ،الاف الأسرى يحومون حولي كأنهم الطير الخضر يعانقون الوطن يتشبثون بجذوره وقرامي زيتونه الشامخة بطولات وتضحيات تعبق المكان وشذاها يفوح ملئ السماء عجبا !؟ لماذا؟ فلسطين مهوى القلوب مهد الأنبياء والأولياء فلسطين الأقصى والرباط فلسطين الطهارة والنقاء فلسطين أبي أمي زوجتي شرفي عرضي عرفتها غالية شماء فوهبتها كل ما أملك أصرخ وأستجدي لمن عرفها وظيفة ومنصبا ومكسبا وتجارة صماء اتقي الله بشعبك وأرضك وزين روحك بالوفاء فالأيام دول وما خاب الرجاء ولا طال البقاء .
هنالك الطعام وصنوفه متعددة على أصابع اليد ترمي وتقذف بوجه الأسير كالقدر حاشا لنعمة الله وقدرها تتأنف وتتأفف البهائم والحيوانات من اجترارها وحتى النظر إليها لطالما تخاصمت مع الطعام حتى نسيت مذاقه وشهوة ولذة طعمه مجبرا ومكرها ،حلم يراودني كل يوم يدغدغ نفسي أتمنى أن أشبع من وجبة أو أكلة حتى التخمة لكن هيهات هيهات المنال حتى الطعام تحول لأداة قمع وإذلال تضرب بسياطها وتجلد بحاجتها الإنسانية الطبيعية التي أفرزتها حقوق الأسير المتفق عليها والمعترف بها .
عالم من العبودية الصماء والخرساء مجرد من ضروب الإنسانية والبشرية لا يرحم لا يفرق بين الإنسان والجماد يتعاملون معنا كالأرقام مثلا أنا الرقم 19340336 موجود في الزنزانة رقم 1قسم6 سجن ايشل ،هذه هي هويتي بعالم الأرقام والأصفار شهادة ميلادي تلغى تدفن لأني ميت مع وقف التنفيذ لذلك تطبق علينا أحكام الأرقام سكني ومهجعي مقبرة مكونة من عشرة قبور مرقمة ،جنسيتي تحولت من فلسطيني إلى إرهابي مخرب بالعبري خطورته مرقمة مخرب درجة أولى أو درجة ثانية، حتى منع الزيارات بالأرقام تسجل من ثلاث شهور تنتهي وتتجدد حتى ما لانهاية .
الفورة أو الخروج إلى الساحة أيضا الزمن فيها مرقم 60 دقيقة بالضبط لا أقل ولا أكثر يخرج الأسير من غرفته مكبل اليدين وكذلك القدمين يتهادي في مشيته مثقل الكاهل من زرد السلاسل والقيود يسير الهوينا من العبء وقوة المجهود يلقي به في باحة محصورة الأمتار والحدود محبكة الجدران مرصوفة الأسياج والقضبان مكشوفة بالكاميرات وحراسات تفترس المكان وروائح نتنة هائجة تائهة بمحيطنا تنسج خيوطها المعتقة من عفن المياه العادمة وأصناف القاذورات المكدسة .
الأسير المعزول
أحمد المغربي