لم تكد خيوط الفجر تسدل نفسها على يوم فلسطيني جديد حتى حزم "فائق" حقيبته الصغيرة وارتدى ملابسه المتواضعة.. تسلل إلى غرفة أطفاله وهمهم بدعوات لهم قبل أن يغادر، فأولئك الخمسة هم كل الحياة بالنسبة له وتأمين لقمة عيشهم أهم من كل شيء في عالمه.
خطوات مثقلة سار بها ذاك العامل محاولا الوصول إلى مكان عمله القريب من بيت لحم، وما كاد يقترب من أحد مفارق الطرق حتى باغته جنود الاحتلال وقاموا بملاحقته ومحاولة اعتقاله، وأثناء المطاردة سقط من ارتفاع مما تسبب بحدوث كسر في ساقه أقعده عن العمل..
جرح آخر
تلك الحكاية واحدة من مئاتٍ كان بطل المظالم فيها احتلالٌ ينوي تحويل الأرض الفلسطينية إلى مقبرة للأجساد التي حلمت دوما بالحرية، فالعمال الفلسطينيون باتوا أحد ضحاياه عبر ممارساته القمعية التي لا تجد رادعا رغم خروجها للعلن.
"عدد العمال الفلسطينيين يبلغ أكثر من مليون و100 ألف
"
وضمن تجربته الخاصة يعتبر العامل فائق عيسى أن الاحتلال يتبع سياسة ممنهجة ضد العمال في الضفة المحتلة ويحاول إحباط محاولاتهم للعمل ليضمن إخماد الروح الفلسطينية وتعجيزها حتى عن العيش
ويقول لـ"الرسالة نت":" أنا أعيل خمسة أطفال إضافة إلى زوجتي ووالدتي، ومنذ 12 عاما وأنا أتعرض للتنكيل من جنود الاحتلال، فكلما صادفوني في الطريق اعتدوا علي بالضرب المبرح، وفي أكثر من مرة أصبت بجروح ما بين طفيفة ومتوسطة وبجروح ورضوض جراء الاعتداء المستمر علي، وكان آخرها سقوطي من ارتفاع بعد ملاحقتي"
ويوضح عيسى أنه وبسبب مطاردة الاحتلال له كما بقية العمال الفلسطينيين فإنه لا يكاد يجد ما يعيل أطفاله، وأن العقبات التي يواجهها تحول دون ثباته في عمل محدد يؤمن لهم حياتهم.
ويضيف:" نحن لا ندري من نناشد ولا ندري أين نتوجه، نريد أن نسمع العالم صوتنا ولكننا نعلم أنه أصم لا يريد سماعنا، لمن نتوجه ونشكو همنا؟ الاحتلال يريد أن يمحونا ونحن نريد أن نعيش على أرضنا وهذا كل ذنبنا..".
وتشير الإحصائيات التي أجرتها مؤسسات حقوقية تعنى بحقوق العمال أن عشرات آلاف الفلسطينيين الذين لا يجدون وسيلة لإعالة أنفسهم او عائلاتهم يخاطرون بالدخول إلى الأراضي المحتلة دون تصريح من أجل الحصول على عمل، والكثيرون يتعرضون للمحاكمة وإنزال عقوبة السجن إلى جانب التغريم، كما يقعون ضحية للعنف والتنكيل الشديد من جانب الاحتلال.
وتؤكد تلك المؤسسات أن عدد العمال الفلسطينيين يبلغ أكثر من مليون و100 ألف، وأن البطالة تتسرب إلى أكثر من نصفهم الأمر الذي ينبئ بكارثة قد تحل بقطاع العمال، فيما لا تلبي القطاعات الخاصة والمشاريع الفلسطينية حاجة مئات آلاف الأيدي العاملة.
من المسؤول؟
وفي يوم العمال العالمي لا يجد الفلسطينيون سببا للاحتفال، فتارة يستذكرون واقعهم المرير وأخرى يتجرعون مأساة يعيشونها دونما مجيب، ودوما يتساءلون من المسؤول.
وضمن هذا الإطار يؤكد الناشط الشعبي أحمد صلاح من بلدة الخضر لـ"الرسالة نت" أن ممارسات الاحتلال بحق العمال تندرج في إطار الحرب على الحياة التي ينفذها في الضفة، وأن تلك هي شكل واحد من أشكال المعاناة التي حفرت في قلوب الفلسطينيين.
ويرى صلاح بأن الاحتلال يهدف إلى تحقيق نوعين من المعاناة لدى العامل الفلسطيني؛ الأول جسدي عبر التنكيل والضرب والملاحقة والاعتقال، والآخر نفسي عبر قطع كل الطرق عليه ومنعه من العمل وإلقائه إلى بحر السوق السوداء.
ويبين الناشط بأن السلطة ووزارة العمل الفلسطينيتين تتحملان جزءا كبيرا من المسؤولية بسبب عدم توفير فرص عمل كافية وعدم إيجاد حلول تقي العمال ممارسات الاحتلال، إضافة إلى عدم مساعدتهم في مشاريع صغيرة أو برامج تساهم في حل الأزمة التي يعانون منها في ظل الاحتلال.
ويتابع:" العمال هم ضحية الاحتلال كما فئة الأطفال والأسرى والمرضى والجرحى وأسر الشهداء، وهم الأكثر تعرضا للمعاناة بسبب الاحتكاك المباشر مع الجنود كلما توجهوا إلى أعمالهم".
ويبقى المشهد يروي نفسه.. فالحواجز والمعابر "الإسرائيلية" المنتشرة في الضفة تترجم معاناة العمال الفلسطينيين بساعات طويلة من الانتظار ترهق الجسد وتدفن الروح المنتجة.