قائمة الموقع

عوائل شهداء غزة.. صمود يطوي الأحزان

2009-12-30T18:38:00+02:00

غزة- الرسالة.نت

مع مطلع يوم السبت 27 ديسمبر 2008م عاش قطاع غزة مأساة إنسانية ليس لها مثيل في التاريخ الحديث.

الحرب التي شنها الاحتلال الصهيوني حفرت ذكريات لا تُنسى في دفتر قطاع غزة، كان أبرزها ذكريات لعوائل الشهداء، فبعد مرور عام على المجزرة؛ كيف تراها هذه الأسر؟ هذا ما نحاول كشفه في هذه السطور.

البداية كانت من منزل أم العبد الجدبة (47 عامًا)، والتي زيَّنت جدران ما تبقى من منزلها بصورتي ابنتيها ياسمين وشيماء اللتين استشهدتا في الحرب الصهيونية على قطاع غزة بعقدين توسطهما لفظ الجلالة، جلبهما زوجها من الديار الحجازية الذي حصل على مكرمة سعودية للحج هذا العام.

 الأحزان والآلام لم يعد لها متسع في قلب أم العبد التي تعيش ذكرى استشهاد أبنائها الثلاثة في القصف الصهيوني، الذي استهدف منزل جدهم الكائن في منطقة الزرقا القريبة من بلدة جباليا؛ بعد أن هاجروا قسرًا من منزلهم في جبل الريس الذي شهد معركة حامية الوطيس بين رجال المقاومة وجنود الاحتلال إبان الحرب الغاشمة على قطاع غزة.

** صمود وثبات

تقول أم العبد التي فقدت ثلاثة من أبنائها: عبد العظيم (26 عامًا)، وياسمين التي أنهت 15 ربيعًا، وشيماء ذات التسع سنوات في ذكرى مرور عام على المجزرة البشعة: "أفتقدهم في كل لحظة، فصورهم لم تغب عن خيالي".

وتضيف بصبر وجلد: "لن تجدد الذكرى أحزاني، فلم يعد متسع في قلبي لذلك، فلو فرح العالم بأسره سأبقى حزينة".

مع كل ليلة تعيش الأم ذكرى الحرب، فمنزلها الذي يقع في بطن "جبل الريس" لا يبعد مئات الكيلومترات عن الحدود الشرقية مع القطاع، وأصوات الدبابات الصهيونية تصل إلى مسامعهم بمجرد أن يسود الظلام؛ ما يربك أطفالها الصغار ويثير الخوف في عيونهم من عودة صواريخ الموت التي قتلت أشقاءهم، فتحاول الأم الصابرة أن تهدئ من روع أطفالها بمعاني الصمود، لتزيل مخاوفهم من أية عدوان وشيك.

 وسبقت الذكرى الأولى للمجزرة الوحشية تهديدات صهيونية بشن عدوان جديد على غزة، لا سيما بعد انطلاقة حماس التي شهدت التفافًا جماهيريًّا لم يتوقعه العدو الصهيوني، والعالم بأسره.

 وكان قائد الأركان العسكرية في الجيش الإسرائيلي غابي إشكنازي هدد بشن عدوان جديد على القطاع.

 التهديدات الصهيونية المتواصلة لم تثنِ عزيمة العائلة التي طاردها الرصاص المصبوب بحممه الملتهبة فقتل أبناءها لتخضب الأرض بدمائهم الزكية، ويقول أبو العبد الجدبة والد الشهداء بعزيمة وتحدٍ: "هم يقلعون ونحن نزرع.. يدمرون ونحن نبني، ولن يستطيعوا اجتثاثنا من أرضنا مهما فعلوا، فهم زائلون ونحن باقون".

ويعقب الجدبة على جريمة قتل أبنائه بالقول: "الاحتلال لا يتورع عن قتل الأطفال والشيوخ والنساء؛ وهو ما يبرهن للعالم على إفلاسهم وتخبطهم؛ لأن حقيقة المواجهة على أرض الميدان ليس مع المدنيين العزل، فهم يوهمون شعبهم بنصر زائف".

ولا يخشى الجدبة من شن عدوان جديد، معتقدًا أن المعركة القادمة ستكون حاسمةً؛ لأنها ستكون معركة الأمة الإسلامية بأكملها التي ثارت وهتفت للمقاومة الفلسطينية، وللنصر الرباني في معركة الفرقان- كما يقول: "الاحتلال فشل في توجيه ضربة قاصمة للمقاومة التي تحصنت جيدًا، وأربكت العدو، وألحقت به خسارة فادحة في أرض الميدان.

** ذكريات عطرة

ملامح الحرب السوداء لم تفارق الحي، فالبيوت المدمرة، والأراضي المجرفة، وخيام الإيواء البيضاء التي تداعبها نسمات الهواء، لا تبعد كثيرًا عن عائلة الجدبة ما زالت شاهدةً على بشاعة العدوان الهمجي الذي استمر 23 يومًا.

وبعد أن وضعت الحرب أوزارها عادت العائلة لمسكنها لتبدأ حياتها مجددة ذكرى أحبتها في كل مناسبة، يقول علي الجدبة (22 عامًا) ابن عم الشهداء، مستذكرًا رفيق دربه الشهيد عبد العظيم: "افتقدت أخًا عزيزًا في حلقات تحفيظ القرآن، كما أن وجهه الذي كان يشع نورًا غاب عن ذكرى انطلاقة حركة حماس الـ22".

ويضيف علي بحزم: "لم ننس الحرب، ولن نحتاج لذكرى تحيي شجوننا، وأحزاننا، فمشاهد الدمار التي خلفها الاحتلال عالقة في أذهاننا، تذكرنا في كل يوم بحجم المأساة التي ارتكبتها "إسرائيل" في حرب غزة.

ولا يخفى علي أن الهدوء الذي يعشيه القطاع مؤقت، مستطردًا بالقول: "لن نبقى هاربين، وسنتحدى الخوف والحصار، فلا مفر أمامنا سوى التضحية والفداء لتحقيق النصر".

أما شقيق الشهداء سامي الجدبة (22 عامًا) فلم يفلح في حبس دمعة نجحت في الفرار من عيونه، فشقيقه عبد العظيم كان بمثابة الحضن الدافئ له في العمل والبيت، يساعده في تذليل العقبات التي تواجهه، ويلبي جميع متطلباته الحياتية.

ولا تغيب عن خياله ضحكات شقيقته الصغيرة شيماء، وشقيقته الوسطى ياسمين التي كانت تعد له الطعام في أغلب الأحيان، ويقول سامي بعبارة مقتضبة "يوم الذكرى سيكون بمثابة يوم حزن لي لغياب الأحبة".

الحال لا يختلف كثيرًا بالنسبة للأم الصابرة ففلذة كبدها عبد العظيم كان يخفف عنها الأعباء ويقوم بجميع أعمال الصيانة في المنزل، أما زهرتها ياسمين فكانت تشتري لها كل ما ينقصها من مستلزمات المنزل عند عودتها من المدرسة، ولعل ما تفتقدها الوالدة بصورة دائمة هو شيماء الصغيرة التي تعودت على اصطحابها لبيت جدتها في كل زيارة.

ويأمل أفراد عائلة الجدبة في تلك الذكرى الحزينة على قلوبهم أن تكون مذكرة الاعتقال التي صدرت بحق مجرمة الحرب "تسيبي ليفني" خطوة استيقاظٍ للشعوب الأوروبية والغربية التي تتغنى بالديمقراطية والعدالة، وأن تتم محاكمة قادة الحرب على قتلهم النساء والأطفال الأبرياء.

وطالبت العائلة الشعوب العربية، وعلى رأسها الشقيقة مصر بالحراك العاجل لفك الحصار الظالم، وإدخال المواد الخام الأساسية اللازمة لإعمار القطاع المدمر، كي تزول آثار الحرب من نفوس المشردين الذين يقطنون في العراء بدون مغيث لحالهم.

** فرحة النصر

"لا تحزنوا يا إخوتي إني شهيد المحنة... آجالنا محدودة ولقاؤنا في الجنة" خطت هذه الكلمات على صورة كبيرة في بيت الشهيد القسامي محمود الريفي الذي امتشق سلاحه مع بزوغ فجر الثاني من يناير الماضي، وطلب من والدته الدعاء له بالثبات والتمكين عند لقاء العدو.

وكان الشهيد الريفي تمكن من أسر جندي صهيوني خلال الحرب الغاشمة، وحمله على كتفيه كالطفل الرضيع، إلا أن طائرة استطلاع صهيونية أطلقت صاروخًا صوبه، فصعدت روحه الطاهرة إلى عنان السماء، وقتل الجندي الصهيوني.

يقول والد الشهيد أبو محمد (42 عامًا) الذي يقطن في حي التفاح شرق مدينة غزة بفخر واعتزاز: "إن فشل الاحتلال في تحقيق أهدافه في الحرب على غزة أطفأ نار أحزاننا وبرد جراحنا، فدماء أبنائنا لم تذهب سدى، وتمكنت من صد العدوان.

ويضيف بشيء من الفرحة: "الالتفاف الجماهيري الذي حظيت به حماس في ذكرى انطلاقتها دليل قاطع على أن أبناءنا موجودون ولم يرحلوا، وأن المقاومة ما زالت قوية تأبى الخنوع لكل التحديات والمؤامرات التي أحيكت لإسقاطها.

ولا يشعر أبو محمد بأي تحول في حياته بعد استشهاد محمود ذي الـ(18 ربيعًا)؛ لأنه خاض معركة مقدسة انتصر فيها الفلسطينيون، وتخبط خلالها الجنود الصهاينة من الفزع والرعب، وبللت دموع الخيبة والذل وجوههم.

ويستذكر والده صفاته الحسنة قائلاً: "كان شديد السرية، ومنذ نعومة أظافره كان متفانيًا يؤثر على خدمة الآخرين، ورفاقه في كتائب القسام يتمنون أن يرابطوا معه على الثغور لكرمه وشجاعته".

ولا يأبه أبو محمد للتهديدات المطالبة بردع المقاومة الفلسطينية، فتجربتهم الفائتة أثبتت فشلهم الذريع، ويقول بعزيمة قوية: "نحن لا نتمنى لقاء العدو، ولكن نسأل الله الثبات للمقاومة حتى دحر الاحتلال عن ديارنا".

ولا يعول على تلك الشعارات الزائفة التي يرددها الغرب تارة، وتختفي في سويعات عن ملاحقة قادة الحرب، وتقديمهم لمحاكمات عادلة، فهم لا يستطيعون الوقوف في وجه "إسرائيل" المتغطرسة على حد قوله.

يوم ذكرى استشهاد محمود سيستقبله أبو محمد وعائلته بالتقرب إلى الله، والدعاء له بالمغفرة، ففرحة نصر الفرقان حجبت ألم الفراق، ويتمنى من القيادة السياسية أن ترفع شعار الوحدة في ذكرى الحرب؛ لمجابهة التحديات التي ألمت بالشعب الفلسطيني، فأكثر من 1500 شهيد ينتمون لعامة الشعب مزقتهم القذائف الصهيونية دون أن تفرّق بينهم.

وتبقى حكايات الصمود والشهادة حديث الجميع، ولكل رواية منها آلام مختلفة تجتمع تحت عنوان "غزة الجريحة".

 

اخبار ذات صلة