إلغاء مدينة مانشستر البريطانية محاضرة كانت مقررة للبروفيسور "الإسرائيلي" موتي كريستال المتخصص في مهارات التفاوض وإدارة الأزمات، خطوة تستحق التوقّف من حيث كونها تأتي استجابة لضغوط من اتحاد النقابات المهنية البريطانية، وليس بفعل نشاط عربي لا وجود له على الصعيد، حيث إن التطبيع من بعض العرب له أول وليس له آخر، وهو يملك عيناً قوية بسبب النموذج الذي يمثّله بعض الفلسطينيين الذين يصرّون على طعن قضيتهم بخنجر مسموم خدمة لأهداف خاصة.
الخدمات الصحية في إنجلترا هي صاحبة الدعوة الموجّهة إلى البروفيسور "الإسرائيلي" للمشاركة في ورشة عمل بعنوان "دور التفاوض في التعامل مع النزاعات". وقبل أن يسافر البروفيسور وصلته رسالة بالبريد الإلكتروني تبلغه بأنه تم إلغاء الدعوة، بسبب ضغوط من اتحاد النقابات المهنية الذي يمثل نحو مليون وثلاثمئة ألف عامل بريطاني، لافتة إلى أن اتحاد النقابات المهنية يدعم نقابات عمال فلسطين في نضاله المشروع ضد "إسرائيل"، وهو لا يكتفي بالعمل النشط من أجل مقاطعة الأكاديميين "الإسرائيليين"، إنما يحارب على جبهة مقاطعة البضائع والخدمات التي تنتجها المستوطنات.
منذ سنوات و"إسرائيل" تشكو من تصاعد حملات المقاطعة عليها في بريطانيا، وبخاصة في الأوساط الأكاديمية حيث تتميّز الجامعات البريطانية بموقف واضح وصريح في مقاطعة الأكاديميين والجامعات "الإسرائيلية" التي لا تحدد موقفاً واضحاً لا لبس فيه من الاحتلال والاستيطان. وتجلى القلق "الإسرائيلي" أكثر من مرة في عهد حكومة إيهود أولمرت - تسيبي ليفني لدرجة الدعوة إلى اجتماع وزاري لبحث المقاطعة البريطانية المتصاعدة للوسط الأكاديمي في الكيان. وفي ذلك الاجتماع وصف أولمرت حملة المقاطعة بأنها أفكار مسبقة وخبث وسوء نية و"معاداة للسامية"، وأن "إسرائيل" ستحاربها، ووصل الأمر، حد استدعاء السفير البريطاني للاحتجاج.
لا تحترم "إسرائيل" حتى اللعبة التي تدّعي أنها تمارسها، فاتحاد النقابات المهنية البريطانية يأخذ قراراته بالتصويت، كما أن الجمعية الوطنية لأساتذة الجامعات البريطانية، التي تضم سبعة وستين ألف عضو، اتخذت بالتصويت قرارها بمقاطعة المحاضرين والمؤسسات الأكاديمية "الإسرائيلية" ما لم ينأوا بأنفسهم عن سياسة الفصل العنصري والممارسات التعليمية التمييزية التي تنتهجها "إسرائيل".
ولم يكن هذا التوجّه تعبيراً عن انحياز لمصلحة الفلسطينيين بوصفهم ضحايا لهذا التمييز، بل في سياق احترام المثقّف لنفسه ودوره وانتمائه للإنسانية ذاتها، وهذا ما عناه توم هيكلي أستاذ الفلسفة المحاضر في جامعة برايتن صاحب اقتراح المقاطعة، عندما قال إن التغاضي عن موقف الأكاديمي "الإسرائيلي" مما تقوم به حكومته من أعمال، هو إنكار للحقيقة وإن غالبية الأكاديميين "الإسرائيليين" إما متورطون في سياسات حكومتهم أو يذعنون لها، أي أنهم في الحالتين يستحقون المقاطعة.
"إسرائيل" لا تريد أن تعترف بأن حملة مقاطعتها سببها سياستها العنصرية تجاه الفلسطينيين، وتصر على أنها معاداة لليهودية وللسامية، رغم أن عالم الأحياء اليهودي ستيفن روز أقرّ بأنه هو الذي يقف وراء الحملة وأنه يفعل ذلك بدافع اعتزازه بيهوديته وقناعته بأن ما تفعله "إسرائيل" مع الفلسطينيين معاد لليهودية.
ومما يؤسف له أن حملة الأكاديميين البريطانيين لا تجد المساندة التي تستحق من نظرائهم العرب، مساندة ربما تجعل من الحملة نواة لمقاطعة دولية واسعة شبيهة بالمقاطعة التي فرضها العالم على نظام الأبرتايد العنصري السابق في جنوب إفريقيا وساعدت نضال الشعب الجنوب إفريقي في إسقاط ذلك النظام.
مهما يكن من أمر، فإنه يسجل لهؤلاء الأكاديميين البريطانيين موقفهم الذي يعكس الدور الحقيقي للمثقف المتبني للقضايا العادلة في تناقض مع سياسات حكومات داعمة ل "إسرائيل". ولربما يكون هؤلاء يحسّون بتأنيب ضمير لما فعلته حكومتهم قبل نحو مئة عام عندما منحت الصهاينة "وعد بلفور" الذي مهّد لاغتصاب فلسطين.
صحيفة الخليج الإماراتية