الغالبية الساحقة من الناس إما تفتقد الأمل في المصالحة أو تتشكك في حدوثها، إذ أن تجارب الماضي لم تدع بين ثنايا النفوس مساحات واسعة للتفاؤل والاستبشار.
لكن العالمون ببواطن الأمور، والمطلعون على تفاصيل الحوارات، يدركون أن حظ التوافق هذه المرة بين حركتي: فتح وحماس يبدو كبيرا.
حديث المصالحة يتركز اليوم باتجاه إنجاز ملف الحكومة، فهذا الملف يشكل العقدة الأولى التي تنتصب في طريق تذليل بقية الملفات، ويعتبر المدخل الأهم باتجاه تسوية الطريق أمام بث وتغذية مفاهيم المصالحة في واقع المجتمع.
من المؤسف أن يتأخر إنجاز ملف الحكومة ما يزيد عن عام منذ إبرام اتفاق القاهرة بتاريخ 4-5-2011م، وأن تبلغ الأمور لدى الناس حد "القرف" من إتيان سيرة المصالحة والتفاؤل في إنجاز شيء منها.
في وضعنا الفلسطيني الداخلي لا تبدو الأمور طبيعية ألبتة أو منطقية بحال، حتى باتت سيرة المصالحة والوفاق شيئا غير مألوف وطنيا وخارج نطاق التوقعات الشعبية.
من المؤسف أيضا أن ننزل كفلسطينيين عند حدّ الحكومة هذه الأيام بحكم الاضطرار لا الرغبة، وأن يغدو واقع المصلحة الحزبية مسيّرا لاتجاهات مواقفنا وسياساتنا المختلفة، بحيث نتقدم وطنيا مع تعزّز مصالحنا الحزبية، وننكفئ وطنيا حين تتضرر مصالحنا الحزبية، لتغدو فلسطين في حساباتنا الفصائلية ثانيا وربما ثالثا ورابعا، وربما لدى البعض أخيرا.
تشكيل الحكومة لا يعني تحقيق المصالحة. تلك حقيقة لا ريب فيها، وجملة سياسية ينبغي أن تستقر في وعي وأفهام الجماهير.
ما بين الواقع والمأمول بون شاسع ومفازة كبرى. لو كانت النية حسنة والإرادة تامة فلسطينيا لما احتجنا إلى حوارات أو قل مفاوضات ماراثونية بين العواصم كي نلامس بعد عناء ذرى أولى ملفات المصالحة، ولما سمحنا للانقسام البغيض أن يطحن أرواحنا ونسيجنا الاجتماعي وقيمنا ومبادئنا الوطنية.
الدروس تتوالى تترى من حولنا، وكلها تطرق أصل مشكلتنا الداخلية، وترسم لنا آفاق الأمل من جهة، وكلفة الانكسار من جهة أخرى.
في تونس أنتج الاحتكام لمنطق الشراكة الوطنية نظاما سياسيا متآلفا يدور في إطار منظومة متجانسة يجمعها برنامج موحد وأهداف مشتركة.
أما في مصر فقد أفرزت الفئوية الحزبية التي خاصمت منطق الشراكة والائتلاف الوطني في إطار الانتخابات الرئاسية واقعا سياسيا مشتتا يضادّ أهداف الثورة ويهددها بالزوال والاندثار.
درسا تونس السعيدة ومصر المكلومة جديران بالفحص والاقتداء فلسطينيا، فلا خير إلا في الشراكة الكاملة، ولا اقتراب من الأهداف والحقوق الوطنية إلا بالالتقاء على برنامج جامع يشكل دليل عملنا الوطني خلال المرحلة المقبلة.
على المستوى النظري تبدو لفظة "الشراكة" جميلة وذات بريق، لكنها تفقد بهاءها ورونقها حين تتنزل، رؤى وآليات، على أرض الواقع بأيد فصائلية لا ترى إلا في مصالحها بداية الوطن وآخره.
لا زال هناك فسحة من الوقت لإعادة الاعتبار لمشروعنا الوطني وإعادة إصلاح وبناء ما فات، ولا زال في نفوس شعبنا مساحة للصفح والغفران شرط مصارحته بكل ما يمس حاضره ومستقبله، ووضع مصالحه الكبرى وقضيته الوطنية في صدارة الأجندة والأولويات خلال المرحلة المقبلة.
بالإمكان الاستدراك السريع، وإلا فإن صندوق الاقتراع سيكون بالمرصاد!