في السابع والعشرين من شهر رجب عام خمسمائة وثلاثة وثمانية هجرية ، الموافق لذكرى الإسراء والمعراج ، كان تحرير بيت المقدس من الصليبيين على يد البطل صلاح الدين الأيوبي ، وذلك بعد أن ظلت تسعة عقود تحت الاحتلال الصليبي، الذي عاثوا في باحات المسجد الأقصى فساداً وسفكوا فيه الدماء ، حتى قتلوا – حسب اعترافات مؤرخيهم – سبعين ألف مسلم ، حتى غاصت خيولهم إلى ركبها في دماء المسلمين فضلاً أنهم منعوا الأذان في المسجد الأقصى ورفعوا فوق قبابه الصلبان وذلك طوال فترة احتلاله .
وقد كان تحرير بيت المقدس بعد النصر المؤزر في حطين ، حيث تقدمت جيوش صلاح الدين يتقدمهم العلماء والصالحون، وقد نجح صلاح الدين في محاصرة المدينة ، مما اضطر الصليبيون للاستسلام، وعرضوا الصلح، فقبل به صلاح الدين على أن يبذل كل رجل منهم عن نفسه عشرة دنانير، وعن المرأة خمسة دنانير وعن كل صغير وصغيرة دينارين، ومن عجز عن ذلك كان أسيراً للمسلمين، وأن تكون الغلات والأسلحة والدور للمسلمين، وأنهم يخرجون كلهم من بيت المقدس، فكتب الصلح بذلك .
فكان جملة من أسر بهذا الشرط ستة عشر ألف أسير من رجال ونساء وولدان ودخل صلاح الدين بيت المقدس يوم الجمعة قبل وقت الصلاة، ولم يتمكن المسلمون من إقامة صلاة الجمعة في تلك الجمعة لضيق الوقت، وأقيمت في الجمعة القادمة وكان الخطيب محي الدين بن الزكي. فدخل المسلمون المسجد الأقصى، ونظفوا المسجد مما كان فيه من الصلبان والرهبان والخنازير، وأعيد إلى ما كان عليه في الأيام الإسلامية، وغسلت الصخرة بالماء الطاهر، وأعيد غسلها بماء الورد والمسك، وأبرزت للناظرين، وقد كان النصارى قلعوا منها قطعاً فباعوها بوزنها ذهباً، فتعذر استعادة ما قطع منها.
ثم قبض من النصارى ما كانوا بذلوه عن أنفسهم من الأموال، وأطلق صلاح الدين خلقاً منهم، بنات الملوك بمن معهن من النساء والصبيان والرجال، ووقعت المسامحة في كثير منهم، وشفع في أناس كثير فعفا عنهم، وفرق صلاح الدين جميع ما قَبض منهم من الذهب في العسكر ولم يأخذ منه شيئاً، وكان -رحمه الله- حليماً كريماً مقداماً شجاعاً رحيماً.
هذا هو صلاح الدين الأيوبي الذي ملأ ذكره الدنيا ، ومازال الأعداء يتحدثون عنه قبل الأصدقاء ، ما بين معجب بشخصيته ، أو متخوف أن تنجب الأمة صلاحاً آخر مثله ، ولا غرو في ذلك ، فهذه الشخصية ارتبطت في التاريخ الإسلامي بالمسجد الأقصى المبارك ، لا أقول ذلك رجماً بالغيب بل إحدى الصحفيات - صحفية يهودية - أجرت في أحد المرات لقاءً مع ( أرييل شارون ) ، وباختصار كانت محررة اللقاء تسأل شارون : لماذا هذا التخوف والقلق الذي يبدو عليك وأنت صاحب الأدوار العسكرية في المكان الفلاني وفي الزمن الفلاني ، وقد حصلت على المراتب الفلانية ؟ فقال لها بالحرف الواحد : " أخشى أن يظهر صلاح الدين جديد في العالم العربي الإسلامي " . فكان ردها : ولكن العالم العربي والإسلامي ممزق وفي وضع صعب .. فكان رده : في مثل هذا التمزق ظهر صلاح الدين في الفترة السابقة في العالم الإسلامي والعربي . [ انظر: لقاء مجلة البيان مع الشيخ رائد صلاح ، العدد [ 177 ] صــ 86 جمادى الأولى 1423 ـ أغسطس 2002 ]
إن الانتصار الكبير الذي حققه صلاح الدين حري بالأمة أن تفخر به ، ولكن الأهم من ذلك أن تحافظ عليه ، ولكن للأسف الشديد ، لم تحافظ الأمة عليه ، ولم تحافظ على جيل صلاح الدين ، مما أدى أن تَحلَ بها الكوارث والنكبات ، وعلى رأسها نكبة ضياع فلسطين في عام 1948م ، ثم تلاها النكبة الثانية ، والانكسار الكبير الذي على إثره سقطت القدس في يد الصهاينة ، ووقفوا في باحات المسجد الأقصى يهتفون في نشوة الانتصار : ( هذا يوم بيوم خيبر ، يا لثارات خيبر ) . وما كان هذا ليحدث ، لولا غفلة الأمة وحكامها ، وغياب الإسلام من حياتها ، والذي يشكل وجوده الوقود الذي به الأمة تتحرك وتدافع عن أرضها ومقدساتها
ولكن بالرغم من هذه الهزيمة الكبيرة النكراء ، إلا أن الأمة على إثرها بدأت تستيقظ ، فرب ضارة نافعة ﴿ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ﴾ [ النساء : 19] ، وكما قالوا : إن المصائب يجمعن المُصَابينا . والصوفية يقولون: " كم من منحة في طي محنة ".
ولعل الخير الكبير الذي كان على إثر هذه الهزيمة ، عودة الأمة إلى دينها ، فهذه الكارثة ساهمت بشكل كبير في إيقاظ ضمير الأمة ؛ لترجع إلى الله، وتقرع بابه، وتسأله التوبة، فلا يرد الناس إلى الله مثل الشدائد؛ فالإنسان تغره العافية والرخاء، فإذا تبدل رخاؤه إلى شدة، وعافيته إلى بلاء ذكر الله تعالى وأناب إليه، كما يفعل ركاب السفينة، إذا جاءتها ريح عاصف، وجاءها الموج من كل مكان، وظن ركابها أنهم أحيط بهم، هنالك يدعون الله مخلصين له الدين. فقد أحدثت النكبة يقظة دينية عامة، وتجلى أثر ذلك في المساجد وفي البيوت، وفي الجامعات، وفي الجيش، وفي غيرها .
وها هي هذه الصحوة ، أو اليقظة الإسلامية اليوم تتقدم في كل المواقع ، وتزاحم القوى العلمانية لتقود الأمة نحو الخير وتحرير الأقصى من جديد ، ولعل الأثر الأكبر لهذه الصحوة تمثل في حركات الجهاد والمقاومة على أرض فلسطين ، والتي نجحت بشكل كبير في إدخال في زرع الرعب في قلوب الصهاينة ، وقد تجلى ذلك في العمليات البطولية الاستشهادية ، والتي تمثل حالة فريدة في تاريخ جهاد الأمة لأعدائها ، وقد ساهمت هذه العمليات ، إلى حدٍ كبير في تراجع المشروع الصهيوني ، والذي قام أساساً على التوسع والتمدد في الأراضي المجاورة ، وقد تجلى هذا التراجع في الانسحاب من قطاع غزة.
واليوم والأمة تتذكر هزيمة حزيران المشئومة، يعود لها الأمل من جديد ، وذلك من خلال الثورات العربية، والتي قامت بروح الإسلام، هذه الثورات أحيت الأمل في الأمة من جديد بأن ساعة التحرير قد اقتربت، وصلاح الدين قادم من جديد لا محالة، وستفرح القدس مرة أخرى بعد طول حزنها، وطول تدنيس الصهاينة لها.