رُبّ ضارة نافعة ، قدّر الله أن تختلط حسابات الثورة المصرية مع حسابات أجهزة الدولة الموالية لمبارك في مرحلة ما قبل حسم معركة الرئاسة التي ستحدد مصير الثورة ومستقبل مصر ومكانتها إقليميا ودوليا.
اعتقد المجلس العسكري الحاكم أن إخراج مسرحية محاكمة مبارك في هذه المرحلة، وعلى هذه الشاكلة، يحقق له مكاسب مضمونة وفوائد واضحة تنسجم مع أجندته الخاصة التي حكم بها مصر في عهد ما بعد الثورة.
يدرك المجلس العسكري أن إسدال الستار على فصول محاكمة مبارك وأعوانه لا يمكن أن يتم دفعة واحدة بحكم واقع الغليان الذي يتأجج في نفوس كثير من المصريين، كما يدرك تماما أن تبرئة مبارك أو إصدار حكم مخفف ضده أمر دونه ثورة جديدة بمقاييس مغايرة قد تودي بالبلاد إلى عواقب لا تحمد عقباها.
مع الإخراج الهزلي لمسرحية محاكمة مبارك يراهن المجلس العسكري، ومعه كل المنتسبين والموالين للنظام السابق، على أحد سيناريوهين:
السيناريو الأول أن يفوز شفيق في جولة الإعادة للانتخابات الرئاسية، وبالتالي يصدر عفوا عن مبارك خلال الأسابيع أو الأشهر القادمة، طاويا بذلك –من وجهة نظره- صفحة الثورة المصرية ومتعلقاتها نهائيا.
أما السيناريو الآخر فيكمن في حدوث موجات احتجاج ثورية عارمة لا تبلغ حد الفوضى وتفجير الأوضاع، سرعان ما يلتقطها المجلس العسكري لتنفيذ سيناريو مدروس قوامه تأجيل جولة الإعادة خشية فوز مرسي بها تحت ذريعة عدم استقرار الأوضاع وصعوبة إجراء الانتخابات في ظل التقلبات السياسية والأمنية القائمة.
لا شك أن حسابات المجلس العسكري بالغة الدقة، فقد أثبت خلال مرحلة ما بعد الثورة براعة فائقة في امتصاص إفرازات الثورة وفنّ صناعة واختلاق الأزمات في وجه مسار وأهداف الثورة، لكن حساباته ليست محسومة النتائج سلفا هذه المرة كما المرات السابقة قياسا بالتداعيات والموجات الارتدادية التي أحدثتها، والتي تتفاعل حاليا في الميدان المصري، ما قد يحملنا على الاعتقاد أن مخططات وحسابات المجلس العسكري قد تؤول -هذه المرة بحق- إلى الفشل والخسران.
سلوك وحسابات المجلس العسكري الأخيرة أيقظت روح الثورة في كافة أرجاء مصر من جديد، وأعادت إلى وعي قوى الثورة الاستشعار بحجم وثقل التحديات التي تتهدد ثورتهم وتتربص بحاضرهم ومستقبلهم، فبدأ مشهد الثورة يؤوب تدريجيا إلى سمته النقي وسيرته الأولى الأصيلة، لتعلو قيم الوحدة والتكاتف المشترك على نزعات الأنانية الشخصية والحزبية، ويتشكل مجددا الاصطفاف الثوري والفرز الوطني على أساس الانحياز لمصر وكرامتها وثورتها في مواجهة قوى الشدّ العكسي التي تجهد في إعادتها إلى مربع الظلم والفساد والتبعية والاستبداد.
الثورة المصرية تسترد اليوم وعيها، وتستعيد حياتها التي أصابها الاختناق طيلة الأشهر الأخيرة، لتعيد –بالتالي- غرس بذور الأمل في قلوب المصريين وكافة أبناء الأمة العربية والإسلامية وكل أحرار العالم الذين يوقنون أن نجاح الربيع العربي منوط موضوعيا بنجاح الثورة المصرية.
حين تسترد الثورة المصرية وعيها، وحين تعيد قوى الثورة نسج ائتلافاتها واصطفافاتها على أساس وطني صرف، لا نخشى على مصر شيئا، ولا نخشى على الثورة ومستقبلها، ونبدأ نترقب فعليا ساعة الإنجاز التي تؤذن دقاتها بصوغ مطرد لمرحلة جديدة من الأمل المشرق والعزة التليدة والكرامة السامقة والانتصار المجيد ليس لمصر وحدها، دورا ومكانة، بل للأمتين العربية والإسلامية في إطار مشروع النهضة والتحرير في مواجهة المشروع الصهيوني – الأميركي في المنطقة.