أطفال عائلة عواجا: صغيرنا نزف حتى "راح الجنة"

الرسالة نت - فادي الحسني

قبل الثالث والعشرين من ديسمبر الماضي كان كل شيء عاديا..الكراسات والأقلام والألعاب وحتى الطفولة التي لا تزال تنسج خيوطها في وجوه أطفال غزة البؤساء.

قبل ذاك التاريخ لم تكن الطرق المؤدية إلى مدرسة "سخنين" الدنيا المشتركة الواقعة إلى الشمال من قطاع غزة، بهذه الوعورة ولم يكن يحيطها الخوف من كل جانب، مثلما لم يكن ينقص أطفال أسرة كمال عواجا أحدا..فكانوا أربعة يغدون صباحا إلى مدرستهم وهم يرتدون زيا يقتبس من علم فلسطين اللون الأخضر، ثم يعودوا ليرتموا في أحضان أبويهم.

تبتسم الطفلة أمسيات عواجا في الثالثة عشر من عمرها تارة وتمتعض تارة أخرى..لاسيما أنها خسرت في الحرب على غزة الكثير، وتقول "إنها لم يتبق لها شيئا من طفولتها".

قتل وتهجير

يحيط أمسيات ثلاث صديقات وهي تجلس في باحة مدرسة "سخنين" التي أصبحت أثرا بعد عين بفعل القذائف الحربية التي سقطت عليها أثناء الحرب، تروي لهن ما أصاب أسرتها من "موت ودم وتهجير"، كما تقول.

بعد انقضاء الحرب عادت أمسيات إلى المدرسة برفقة شقيقيها الاثنين "حلا وصبحي" فقط، فيما تركوا شقيقهم الرابع إبراهيم في العاشرة من عمره، "في الجنة" على حد تعبير حلا الصغيرة.

واضح أن الأثر النفسي الذي خلفته الحرب في نفوس أطفال غزة، قضى على ما تبقى من أحلامهم وطموحاتهم، خاصة بعد أن داهمت الدباب الإسرائيلية غرف نومهم وداست فوق الدمى ومزقت الكتب المدرسية..تقول حلا في السابعة من العمر "هدموا البيت وكسروا غرفتنا وداسوا على كل شيء..وقتلوا أخي إبراهيم أمامنا".

تضع حلا أناملها الصغيرة على وجنتها وتصمت، وهي تروي حكاية الألم الذي حل بأسرتها "اقتحموا البيت فجأة وأخرجونا منه..بقينا طيلة الليل في البرد والعتمة..مع بزوغ النهار ابتعدت الدبابات قليلا عن المنزل..فطلب منا بابا العودة مجددا إليه".

تتحدث حلا وهي تقف خلف مقعدها الدراسي المحطم، وتعاود القول "عندما دخلنا البيت وجدناه محطما، إلا سريرا واحدا".وتضيف الصغيرة وفي عينيها ثمة حسرة "ليت إبراهيم لم يتكئ حينها على الجدار المثقوب، إذ داهمته الرصاصات فمزقت منتصف جسده".

تقاطعها شقيقتها الأكبر أمسيات بقولها "احتضن أبي حينها إبراهيم وهرع لإسعافه وكنا نركض خلفهم..ما أن تخطت أقدام أبي عتبات المنزل حتى أطلقوا النار عليه وأصابوه في صدره، فسقطا أرضا وبقيا ينزفان!، وبقينا نحن ننظر إليهم من بعيد ونبكي".

وأضافت أمسيات "أيش طلع بأيدنا نعملهم..حتى ماما ما قدرتش تعمل اشي إلهم".

نطق إبراهيم الشهادة

نزع الصغير صبحي لثام الصمت عن وجهه وقال" بابا كان يطلب من إبراهيم نطق الشهادة فنطقها، وطلب منه أيضا أن يقرأ من القرآن، فأجابه إبراهيم بأنه تعب جدا وأنه لا يقوى على الحديث وإخراج صوته..لكن أبي قال له اقرأ بسرك القرآن".

الدم كان يغرق ملابس الأب والابن معا والنزيف مستمر فيهما، لكن حالة إبراهيم كانت الأكثر سوءا-وفق أشقائه- خاصة وأن جنود لاحتلال الإسرائيلي منعوا الإسعاف من دخول المنطقة لنقلهم للمستشفى، كما أن نداءات الاستغاثة لم تلفح في ظل عنجهية جنود الاحتلال وقسوة قلبهم، كما يقولوا.

تقول أمسيات "بقينا نصرخ مع أمي لكن أحدا لم يحرك ساكنا..لم يكن باليد حيلة، إبراهيم بدأت روحه تصعد إلى السماء، ونحن ننظر إليه ونتألم".

لفظ الطفل إبراهيم أنفاسه الأخيرة، وحطت رأسه على ساق والده المصاب، بينما كان الجنود الإسرائيليون ينظرون من على بعد عشرات الأمتار ويتبسمون.

عقارب الساعة بدأت تحرف معها أشعة الشمس وسط السماء..النحيب سيد الموقف.. الجميع ظل صامت والجنود يرتقبون ما يجري..مواطن يقود عربة يجرها حمار، برز فجأة وتقدم باتجاه المصاب كمال عواجا وابنه الشهيد.

هرع الأطفال الثلاثة الذين كانوا يحتمون حينها بجدار إسمنتي، مع والدتهم، نحو الأب والشقيق الشهيد، فانتشلاهما برفقة المواطن ونقلهما إلى مستشفى كمال عدوان شمال القطاع.

تقول أمسيات "عندما وصلنا المستشفى كان صغيرنا إبراهيم جثة هامدة، بينما كان والدي قد أنهكه النزيف ولا يقوى على الحراك، فأدخل غرفة العمليات على الفور، وبقينا داخل المستشفى طيلة فترة الحرب".

بعد أن انتهت الحرب على غزة، لم تجد أسرة كمال عواجا مأوى بفعل تدمير بيتها كليا، وهي تقطن اليوم في خيمة مهترئة تذيبها مياه الأمطار.

عندما بدأت الحياة تعود تدريجيا لسابق عهدها في قطاع غزة المدمر، خرج الأطفال الثلاثة"أمسيات وصبحي وحلا" متوجهين إلى مدرستهم بلا زيي مدرسي وبلا شقيقهم إبراهيم، وبلا كتب، وتقول صغيرتهم حلا "كل شيء راح، لم يتبق لنا شيئاً..حتى مدرستي هدموها".

 

 

 

البث المباشر