مقال: أدب الاختلاف

دائما يرددون: الاختلاف لا يفسد للودّ قضية. والحقّ أن الاختلاف يجب ألا يفسد للأخوة والمودة قضية مهما كان الأمر، لأن مساحات التوافق والاتفاق العام في إطار العلاقات الإنسانية تبقى أدنى بكثير من مساحات التناقض والاختلاف.

وتلك حقيقة أقرها القرآن الكريم بقوله تعالى: "ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك، ولذلك خلقهم".

بيت القصيد في مجمل تفاصيل هذا المقال أن الاختلاف هو سنّة بشرية ماضية، وأن الواقع المتمخض عن ذلك يقتضي الاحتكام إلى أدب الاختلاف الذي يعطي كل ذي حقّ حقه، ولا يحرم الناس حق إبداء رأيها وفق الضوابط المعروفة في مقابل حق الآخرين في النقد وفق ذات الضوابط أيضا.

أدب الاختلاف يكفل لك حقك في التعبير عن رأيك بكل صراحة وحرية بعيدا عن قيود الرقابة والاستبداد، ويتيح –في الوقت ذاته- لأيّ كان أن يبدي الاعتراض عليه في حدود النقد البناء الذي لا يشتمل على مفردات التشهير والتجريح بأي حال من الأحوال.

أدب الاختلاف يجعل منك نسيجا وحدك وليس صناعة غيرك، فأنت غير مطالب بأن تكون نسخة كربونية عن الآخرين، أو مجبرا على تعاطي ذات النهج والسياسة التي يجترحها الآخرون، مع ما يمليه ذلك من حق الآخرين في إبداء الرأي إزاء الأفكار والرؤى والمواقف التي تحملها حول مختلف القضايا المطروحة.

عندما تسير الأمور على سكّة اللطف والسلاسة والتوافق والانسجام لا نحتاج إلى أدب الاختلاف، وإنما تنشأ الحاجة إليه حين تتعارض الرؤى ووجهات النظر وتتناقض الأفكار والتصورات والمواقف، ويبدو كل صاحب رأي أكثر تمسكا وانحيازا إلى رأيه الخاص، فها هنا تبدو الحاجة أشد ما تكون مساسا إلى ناظم جامع يمنع الشطط والانحراف ويضع الرؤى والتقديرات البشرية في سياقها الصحيح.

ليس صحيحا أن أحدا يملك الحقيقة الكاملة أو يدعي أن موقفه بالغ السلامة والصحة والنقاء ولا تشوبه شائبة، فما نحن –في النهاية- إلا بشر نخطئ ونصيب، وما تراه أنت صوابا قد يراه غيرك خطأ، والعكس صحيح، ولا حجة مفصلية أو اعتبار نهائي لبعض عناصر المعادلة الحاكمة لجهة القول بأن لغة الأرقام تفرض ذاتها أولا وأخيرا، فهذه الأرقام قد تكون حجة عليك لا لك إن لم تحسن توظيفها وإدارتها بشكل سليم، وكم من مبادئ عليا وشعارات نظرية سامية لم تجد لها ترجمة على أرض الواقع رغم كثرة المنظرين لها والداعين إليها؟!

وحين نستسلم لهذه الحقيقة القاطعة فإن قدرتنا –آنذاك- على إدارة حواراتنا وخلافاتنا تبدو وافرة وعالية، وأقرب إلى تمثّل القيم والمبادئ التي يجسدها أدب الاختلاف.

كلّ إنسان، بحكم طبيعته البشرية، معرض لاجتراح الخطأ والصواب في إطار مغالبته ومجاهدته في الحياة، وإذا أشهر كلّ منا سيفه ليغمده في قلب صاحبه إذا رأى منه اختلافا فإن الحياة تأسن، والودّ يضيع، والعلاقات تفسد، وحينها: على الدنيا السلام.

 ما الذي يمنعنا من تحييد علاقاتنا الشخصية جانبا في إطار نقاشاتنا الفكرية والسياسية والثقافية والحياتية، وعدم خلط الأوراق بما يجعلنا أكثر قدرة على الحوار والجدال بالتي هي أحسن، وأكثر قدرة على نسج خيوط التفاهم والوفاق على موائد القواسم المشتركة، ومن ثم توسيع مساحات التوافق والالتقاء بعيدا عن لوك المبالغات وتحميل الأمور أكثر مما تحتمل وإطلاق يد التشهير والتجريح والاتهام؟!

الحياة البشرية، في إطار تجلياتها ودروبها المختلفة، أكبر من أن يتم غلقها أو التضييق عليها برؤى وحيدة أو خيارات أحادية تستعصي –من وجهة نظر أصحابها- على النقاش والحوار المفتوح، وحين نعلم أن الغالبية الساحقة من نصوص القرآن الكريم قابلة للاجتهاد وإعادة القراءة وفق ضوابط في ضوء تطورات الزمن ومتغيرات العصر، فإننا حينها ندرك يقينا أن احتكار الحقيقة أمر دون المنطق السليم، وندرك تماما أن حاجتنا إلى أدب الاختلاف الذي يتولى تنظيم أفكارنا ومواقفنا وتصوراتنا هي كحاجتنا تماما إلى الماء والهواء. 

 

البث المباشر