د.خالد الحروب
من حق مصر وحق أية دولة من الدول أن تكون بوصلة سياستها الخارجية والأمنية الحفاظ على الأمن القومي الخاص بها. ومن حق أي قيادة سياسية حاكمة أن تكون لها تقديراتها الخاصة إزاء العناصر والمكونات لاستراتيجيات الامن القومي، والتي ترتكز عليها نظرتها للتهديدات والفرص التي تبرز في البيئة الإقليمية والدولية المؤثرة فيها. وفي نفس الوقت فإنه من حق الرأي العام والناس والنخب المثقفة أن تناقش تلك التقديرات وتحللها وتنظر إليها من زوايا مختلفة. التقديرات الاستراتيجية للأمن القومي للدول ليست ألغازاً وليست سياسات سرية، وتقديراتها تخضع لمؤثرات وبيئات محيطة يمكن إدراكها بسهولة. بمعنى آخر يمكن النظر بتأنٍّ في حالة أية دولة من الدول والتأمل في مصادر التهديدات المحتملة لها، ومن ثم توقع استراتيجية الأمن القومي التي تنتهجها تلك الدولة. وفي الواقع لا يحتاج الأمر إلى عبقريات من نوع خاص. أي باحث في العلوم السياسية أو العلاقات الدولية يستنتج، مثلاً، وببذل الحد الأدنى من الجهد والبحث أن الصين وباكستان يشكلان مصادر التهديد الأهم للأمن القومي الهندي، وأن روسيا تشكل مصدر التهديد الأهم للأمن القومي الأوكراني، وأن العراق وإيران شكلا في حقبة صدام حسين التهديد الأمني الأبرز لبعضهما البعض. وأن إسرائيل لا تزال تعتبر كل الدول العربية المحيطة، وإيران، هي المصادر الأساسية لتهديدات الأمن القومي، وعلى ذلك تبني استراتيجياتها.
تهديدات الأمن القومي متنوعة الدرجة والخطورة لكن ما يشتغل منها على مستوى صوغ الاستراتيجيات الكبرى هو ما يتعلق بالتهديد الوجودي، أي التهديد الذي قد يؤثر جوهرياً على وجود الدولة وبقائها كاملة السيادة وموحدة الأراضي. هناك تهديدات أمنية أخفض درجة من تلك وتشمل الاضطرابات الداخلية، القلاقل التي يمكن السيطرة عليها، العمليات الإرهابية، شبكات المخدرات، وسوى ذلك. وهناك أيضاً تعريفات حديثة وموسعة لمعنى الأمن القومي صارت تتضمن جوانب أخرى مثل الأمن الاجتماعي والغذائي وحقوق الإنسان، وتطورت باتجاهات شمولية مفاهيم الأمن وتداخل عناصرها ومستوياتها. لكن ما يهمنا هنا وفيما خص مسألة بناء الجدار الفولاذي على الحدود المصرية الفلسطينية في منطقة رفح هو تضخيم مسوغ "الأمن القومي المصري" والانتقال به إلى أقصى وأخطر مستوياته، وذلك لتبرير بناء الجدار.
بذلك يمكننا بسهولة أن نحدد مكمن المخاطر والتهديدات ذات الدرجة الأولى والتي يمكن أن تثير قلق صناع القرار الاستراتيجي المصري. وفي حال التأمل الهادئ في مثل تلك المخاطر والتهديدات، وإذا انحزنا إلى أقصى حالات عدم التساهل إزاء أي تهديد محتمل يندرج في "الخطر على الوجود والسيادة" فإننا لا يمكن أن نصل إلى نتيجة أن غزة ومن فيها وأنفاقها يشكلون "تهديداً للأمن القومي المصري" يستوجب بناء الجدار الفولاذي. وفي الواقع فإن ذلك التحليل يقودنا إلى نتيجة معاكسة تماماً وهي أن بناء هذا الجدار هو ما يساهم عملياً وعلى المدى المتوسط والطويل في خلق بيئة مهددة للأمن القومي المصري:
أولاً، يواجه هذا الجدار معارضة شديدة شعبية وحقوقية إقليمية ودولية تضعف الدور الإقليمي لمصر، وتضاعف من وجود الفراغ العربي القيادي في المنطقة لصالح قوى غير عربية، إيران وتركيا تحديداً. ويؤدي انخفاض مستوى الدور الإقليمي لأي دولة من الدول عن مستوى الحد الأدنى المقبول منطقياً وسياسياً وشعبياً إلى نتيجتين، واحدة خارجية والأخرى داخلية. تتمثل الخارجية في تمادي الأطراف والدول الأخرى المُنافسة على تزعم القيادة الإقليمية، بما يكرس من الضعف الذاتي للدولة المعنية ويساعد في زيادة تهميشها. وتتمثل النتيجة الداخلية في بروز معارضات داخلية شديدة تطالب بإعادة التوازن القيادي والمكاني، وترفض التراجع المُستمر في مسألة الدور والسمعة.
ثانياً، من المعروف أن فكرة الجدار الفولاذي تولدت في أواخر أيام الرئيس الأميركي السابق جورج بوش وفي لقاءاته الأخيرة مع وزيرة الخارجية الإسرائيلية آنذاك تسيبي ليفني في واشنطن بعيد حرب غزة العام الماضي. وأن الانطباع الكاسح في أوساط الرأي العام العربي والعالمي والذي لا تستطيع مصر ولا أحد تغييره، هو أن الجدار مفروض على مصر كما هو مفروض على غزة. ومن هنا فإن بناء هذا الجدار يخلق حالة مؤسفة مفادها إمكانية فرض توجه وقرار خارجي على إرادة مصر وسيادتها وعلى الضد من مصالحها الداخلية والإقليمية والقيادية في المنطقة.
ثالثاً، خلق هذا الجدار وما زال يخلق حالة من الغليان الشعبي الداخلي تزيد من الاحتقان وتوسع من الفجوة بين النظام السياسي والشرائح العريضة. وهذا يقود، وضمن أشياء أخرى كثيرة، إلى زيادة مناسيب التوتر ويوفر البيئات المشجعة لكل أنواع التطرف والراديكالية. لا يمكن دفن الرؤوس في الرمال والتغاضي عن الدمار الكبير الذي سببه هذا الجدار لسمعة ومكانة مصر الحالية، خاصة أنه يُقام في نفس الوقت الذي يُحكم فيه الحصار على مليون ونصف المليون فلسطيني من قبل إسرائيل والولايات المتحدة. ونعرف جميعاً أن خطاب التطرف القاعدي استثمر وما زال يستثمر قضية فلسطين في حشد أنصاره ومؤيديه. ولا نحتاج إلى إبداع من نوع خاص للاستنتاج بأن سياسات خذلان الفلسطينيين على المستوى الرسمي العربي كانت ولا تزال تصب في طواحين التطرف القاعدي، وأن بناء الجدار يندرج مباشرة في هذه السياسات.
رابعاً، تتسع حالياً جبهة النشطاء الدوليين في طول وعرض العالم ضد بناء الجدار، وتشمل منظمات قانونية دولية، وجمعيات حقوق إنسان، وإعلاميين، وبرلمانيين، وسياسيين، يتجمعون في مظاهرات واعتصامات أمام السفارات المصرية في دول العالم. لا يدمر هذا سمعة ومكانة مصر فقط، لكن الأهم منه هو أن أولئك النشطاء ومنظماتهم الحقوقية يشتغلون على جبهات قضائية منطلقها لاقانونية بناء الجدار ومخالفته لحقوق الإنسان، كما هي حال جدار الفصل العنصري الذي بنته إسرائيل وقطعت به أوصال الضفة الغربية والقدس.
لماذا تتحمل مصر كل الأوزار المذكورة وتدفع فاتورة باهظة أكلافها المتراكمة تهدد فعلاً ومسقبلاً أمنها القومي؟ أنفاق غزة وتأثيرها على مصر لا ترتقي لمستوى "خطر من الدرجة العاشرة" لأنها أنفاق تنقل الخبز والعيش اليومي لمئات الألوف من المحاصرين. إذا ارادت مصر إغلاق تلك الأنفاق وبأسوار فولاذ وحديد فإن ذلك يجب أن يسبقه فتح معبر رفح الذي يقع تحت السيادة المصرية، وضمان الحد الأدنى من الحياة للفلسطينين هناك. عندما تقوم مصر بذلك فإنها تعزز أمنها القومي، ومكانتها الإقليمية، وقيادتها للمنطقة. وعندها، وعندها، فقط لن ينتقدها أحد لو أرادت أن تبني ما شاء لها من جدران.