قائد الطوفان قائد الطوفان

مقال: دعاة لا قضاة !..

مؤمن بسيسو

لا تقتصر التحديات التي تواجه الإسلاميين على تحديات الأعداء والخصوم، بل إن التحديات الداخلية النابعة من داخل الصف الإسلامي تكون –أحيانا- أكثر صعوبة وتعقيدا.

قبل أيام التقى الرئيس المصري محمد مرسي وفدا من الفنانين المصريين عقب الاتهام العلني الذي وجهه أحد الدعاة إلى الفنانة إلهام شاهين بالدعارة  والانحلال ما أدى إلى انهيارها على الهواء مباشرة.

لم يكد سامر اللقاء ينفضّ حتى أطلق بعض الدعاة ألسنتهم الحادة ضد الفنانين، ولم يتورع بعضهم عن نعت الفنانين بـ "الداعرين والعاهرات".

منذ عدة عقود ألف الداعية الكبير المرحوم عبد القادر عودة كتابا بعنوان "دعاة لا قضاة"، وهو كتاب فخم بالمنظور الدعوي، ويشكل مرجعا دعويا لكل من أراد التماس السبل الدعوية الناجزة بالطرق السليمة والأساليب الصحيحة.

الكتاب يقدم رؤية واعية لا لبس فيها حول سبل الدعوة الإسلامية وضرورة انسجامها التام مع النصوص القرآنية الصريحة التي تعطي الناس حرية التفكير واختيار الدين والمعتقد: "لا إكراه في الدين"، "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"، "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن".

بين الظروف التي اضطرت عبد القادر عودة إلى تأليف كتابه وظروفنا الحاضرة مشتركات واضحة إزاء علو نبرة المتنطعين والمتشددين الذين يسيئون إلى الدعوة الإسلامية بأكثر مما يخدمونها، ويُنفّرون الناس منها بدلا من أن يبشروهم بها ويجمعونهم حولها ويستقطبونهم لمصلحة برنامجها ومشروعها.

رحم الله الإمام الداعية محمد الغزالي الذي حذر من خطر الدعاة الذين حادوا عن منهج الدعوة السليم، وجعلوا من أنفسهم قضاة يطلقون أحكامهم على الناس، مؤكدا أن أولئك يتسببون بالضرر للدعوة ويسهمون في تأخر مسيرها أكثر مما يتسبب به خصومها وأعداؤها.

كثير من دعاة اليوم الذين قصرت بهم دروب العلم عن التوغل في مسالكه العميقة، وانحازوا لانفعالاتهم السريعة بعيدا عن إعمال آليات التفكير الصحيح وفقا لقواعد الشرع وأصول والدعوة يستسهلون إطلاق النعوت والأحكام على أفراد المجتمع وكأنّ الله تعالى قد جعل منهم قضاة على الخلق وحكاما على الناس، ويتناسون أن الله تعالى قد خلقهم لعبادته من جهة، والدعوة إليه بالحكمة والحسنى وفق منهج الإسلام الوسطي من جهة أخرى.

ما نعاينه اليوم من مشكلات في ساحة العمل الإسلامي يثبت مدى حاجتنا إلى إعادة تأهيل الدعاة علميا ودعويا، وضبط عملهم وجهدهم وحراكهم داخل المجتمع وفق المعايير الدعوية والضوابط الشرعية التي تحتكم إلى مرجعية النصوص القرآنية والأحاديث والسيرة النبوية، وتدور في فلك مصلحة الإسلام الذي جاء رحمة للعالمين، ومصلحة الدعوة التي جاءت لنقل الناس من الظلمات إلى النور.

من يواجه المجتمع بخشونة وتشدد ليس بداعية، ومن يتجاوز قيم الرحمة والتسامح والتيسير والتبشير والتعامل الحسن مع الناس ليس بداعية، وإن حاز أعلى الشهادات في العلوم الشرعية أو لبس ثوب الدعاة وانتسب إلى صفوفهم وشاركهم مجالسهم وتصدّر منتدياتهم. 

مصلحة الإسلام والدعوة تقتضي بناء العلاقات الطيبة مع كل فئات المجتمع، والانخراط الإيجابي في كل الأوساط الشعبية، والعمل على تقديم رؤية إسلامية واعية ومتنورة ومتوازنة ومقنعة لانتشال العصاة من بيئة الزيغ والانحراف إلى بيئة النور والإيمان، وتقويم اعوجاج المعوجين، وإصلاح أخطاء المخطئين بكل يسر وتواضع بعيدا عن أي تعالٍ أو استخفاف.

ديننا ليس دين تشدد وانغلاق، ودعوتنا ليست دعوة "تطفيش" وتنفير، وامتلاك ناصية الحكمة أول وأهم الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها الداعية المجرب كي يستطيع أن يدعُ إلى الله على بصيرة، وأن يحبّب الناس في الدين، وأن ييسر للناس فهم النموذج الإسلامي المنشود الرامي إلى خير الناس ومصلحة العباد.   

البث المباشر