منذ عام 2003 ونحن نقول إن البرنامج السياسي الفعال على الأرض هو برنامج الدولة المؤقتة على أجزاء من الضفة الغربية، وهو البرنامج الذي سمّاه شارون "الحل الانتقالي بعيد المدى"، الذي أسس من أجله حزب كاديما قبل أن يغدو البرنامج نفسه برنامج الليكود بزعامة نتنياهو، وكذلك حزب العمل، بل حتى بعض قوى اليسار.
لا أحد يتحدث في الأمر بصراحة ووضوح لكن مجمل السياسات (الإسرائيلية) منذ 2003 حتى الآن إنما تدفع في هذا الاتجاه بصورة محمومة ومحسومة في آن واحد فيما تنسجم قيادة السلطة مع هذا البرنامج بـ"روعة" تحسد عليها.
اليوم يستعيد إيهود باراك البرنامج نفسه بصراحة ووضوح كما لو أنه خليفة شارون وليس واحدا من القادة التاريخيين لحزب العمل، فهو يتحدث علنا عما كان يطرحه شارون عندما انسحب من قطاع غزة كتجربة أولية كي يجري تطبيق المبدأ تدريجيا على الضفة الغربية وصولا إلى دولة الجدار الأمني التي تسمى مؤقتة (هي ذاتها المرحلة الثانية من خريطة الطريق)، والتي ستبقى لسنوات طويلة قبل أين يجري فتح ملفات ما يعرف بقضايا الحل النهائي (القدس، واللاجئين، والسيادة).
محمود عباس يعلن في ظاهر الموقف وفي كل مناسبة أنه لن يقبل بالدولة المؤقتة، ولا ينسى أن يتحدث عن وثيقة أحمد يوسف التي تقبل المشروع وينسبها لحماس التي رفضتها بالفم الملآن، متجاهلا أن الحركة لم تعد تؤثر في مسار السياسة في الضفة الغربية وعموم القضية التي تركتها له عمليا بعد الحسم العسكري منتصف 2007.
عباس يعلن الرفض، ولكنه في واقع الحال ينسجم تمام الانسجام مع الخطة الشارونية التي أصبحت موضع إجماع في الساحة السياسية (الإسرائيلية) في ظل "اللاءات" الشهيرة التي تشارك فيها المعارضة بزعامة كاديما وخلاصتها (لا لتقسيم القدس.. لا للعودة لحدود عام 67، ولا لعودة اللاجئين للأراضي المحتلة عام 48).
منذ وراثته للسلطة وفتح ومنظمة التحرير يعمل محمود عباس بفعالية رهيبة من أجل إنجاح الخطة المشار إليها، فهو يرفض الانتفاضة والمقاومة ويمنح الصهاينة أمنا لم يحلموا به يوما، وهو يدير دولة لها رئيسها وحكومتها وبرامجها العظيمة للتنمية والاستثمار، وهو يقدم أوراق اعتماد يومية للمحتل من أجل نقل الصلاحيات الأمنية في المدن ومناطق التجمعات الفلسطينية من أجل اكتمال "طقوس الدولة" (قال في الأمم المتحدة إن دولته جاهزة للإعلان)، فيما سيذهب للمتحدة كي يحصل على دولة بصفة مراقب، ولا يستبعد بعد حين من الوقت أن يقبل (الإسرائيليون) بحصوله على دولة كاملة العضوية كي يتأكد أكثر فأكثر أن الصراع تحول إلى مجرد نزاع حدودي بين دولتين.
وكما تحول قطاع غزة بفعل الانفصال إلى دولة جوار ستكون الضفة دولة جوار أخرى مع فارق أنها ستكون مقطعة الأوصال بفعل المستوطنات والطرق الالتفافية التي تعبث بها، وبفعل الحاجة لمحطات إنذار مبكر وسيطرة على بعض المناطق لضمان أمن العدو.
والسيادة عموما مسألة نسبية كما سيقول ياسر عبد ربه لاحقا ومعه عدنان الضميري وبقية المتحدثين باسم سلطة عباس!!.
باراك اليوم يتحدث دون رتوش مكملا الحكاية التي بدأها شارون، فهو يتحدث عن بقاء الكتل الاستيطانية الكبيرة التي تؤوي 90% من المستوطنين في "غوش عتسيون" و"أرئيل" و"معاليه أدوميم" تحت السيطرة (الإسرائيلية) (تحول الكيان الفلسطيني إلى كانتونات يجري ربطها بالجسور والأنفاق والطرق الالتفافية).
كما ستبقي (إسرائيل) على سيطرتها العسكرية على مناطق حيوية من الناحية العسكرية مثل التلال التي تطل على مطار "بن غوريون" مع ضمان وجود الجيش (الإسرائيلي) في الأغوار، وما سيتبقى تكون الدولة الفلسطينية، وهي عمليا حدود الجدار الأمني.
محمود عباس سيرفض كل ذلك قولا لكنه على الأرض سيطبق الخطة التي تنطوي على تصفية القضية، وسيطبقها بكل ما أوتي من قوة، وستنتهي القضية لو نجح ذلك بنزاع حدودي على رفوف الأمم المتحدة.
الأمل معقود على الشعب الفلسطيني الذي نثق في أنه سيبادر (لا ندري متى بالضبط) إلى إطلاق انتفاضة عارمة تفرض على فتح وحماس تغيير المسار برمته من السلطة والدولة إلى الانتفاضة والمقاومة بوصفها المسار الوحيد القادر على فرض التراجع على الاحتلال.
الانتفاضة هي ما تجعل عباس و(الإسرائيليون) يفعلون المستحيل من أجل الحيلولة دون اندلاعها، وما حُزم الإنقاذ التي قررها نتنياهو بعد مظاهرات الضفة ضد غلاء المعيشة إلا تأكيدٌ لهذا الأمر، ولكن شعب فلسطين لن يقبل في نهاية المطاف مقايضة الوطن والكرامة والحقوق بالرواتب ولقمة العيش، فهو الذي لم يكن جائعا قبل أوسلو.
صحيفة الدستور الأردنية