لا قداسة للأشخاص مهما بلغت قيمتهم الاعتبارية في ديننا ودنيانا، فلا أحد يمكن أن يرقى إلى درجة المعصوم صلى الله عليه وسلم.
لكن نفي القداسة لا ينفي الاحترام، ولا يلغي التقدير للمكانة والدور والأداء، بل يعززها ويعلي من شأنها، وخصوصا إذا ما تعلق الأمر بشخصية وازنة وكبيرة أبلت بلاء حسنا نصرة لقضايا شعبها وأمتها من طراز القائد الكبير خالد مشعل.
خالد مشعل ليس نسيجا وحده، ولا هو القائد الوطني الوحيد الذي يستلزم التكريم، لكنه، ورغم بعض الملاحظات على أدائه طوال مسيرته الحافلة، يبقى القائد الأشد عمقا والأكثر تميزا على الساحة الفلسطينية.
لا ينبع تميّز مشعل من صفاته وشمائله الشخصية فحسب، بل إن الرجل راكم طوال قيادته لحركة حماس خبرة واسعة، واستجمع تجربة عميقة جعلت منه مرشدا مخلصا وصمام أمان لحركة حماس والوضع الفلسطيني العام خلال الأعوام الأخيرة.
اليوم، يترجل الفارس الهمام، وينفض عن كاهله أمانة القيادة ومسؤولية المرحلة، ويستعد لإعادة تقييم تجربته الثرية، واستشراف طبيعة وآفاق الدور الذي يمكن أن يضطلع به خلال المرحلة المقبلة.
لا نريد الخوض في الدوافع والخلفيات التي حملت مشعل على تسليم الراية في هذه المرحلة الحساسة وفي ظل التعقيدات التي تلف المشهد الفلسطيني والعربي والدولي، فلكل تصرف مبرراته، ولكل قرار أسبابه، لكننا اليوم بصدد الحديث عما يمكن أن تخسره الحركة بانزياح تجربة كبرى كتجربة مشعل التي امتلكت مؤهلات القيادة، وسعة الأفق، ودقة الرؤية، والقدرة على المواءمة بين الظروف والمصالح، وخبرة التعامل وبسط العلاقات وجسور الحوار مع المحيط الإقليمي والدولي في ظل البيئة المعروفة بعدائها الصارخ للإسلاميين.
لسنا مع الإخلال باللوائح والقيم المعيارية، لكننا يجب ألا نغرق على الدوام في متاهات العمل التقليدي، ونصبح أسرى للقوالب الجامدة التي لا تحسن التعاطي مع مقتضيات المصلحة وصيرورة المستجدات.
هل أنستنا تجربة الأعوام الخوالي أننا لا زلنا في مرحلة تحرر وطني، وأن مشروع السلطة لا يشكل سوى جملة اعتراضية ضمن استراتيجية المقاومة والتحرير، وأن ما ينطبق على مرحلة السلطة من منظومات عمل وقوانين في ظل الظروف الطبيعية ينبغي ألا ينسحب بالضرورة على مرحلتنا الراهنة التي ادلهمت فيها الخطوب وتعاقبت التحديات، بما يقودنا لحسن التكيّف مع الواقع الملبد الراهن واختيار الأدوات الحركية والنضالية المناسبة له بما يتناسب مع موجبات المصلحة أولا وأخيرا؟!
مبدأ التداول القيادي مهم للغاية لتجديد الدماء والطاقات، لكن هذا العنوان العريض يخفي تحت سطحه البراق سلبيات واضحة في بعض الأحيان، فقد يفضي إلى نتائج رائعة في أحيان، ونتائج عكسية في أحيان أخرى.
ذهاب مشعل عن موقع صنع القرار في حماس يشكل –بكل تأكيد- خسارة كبرى للحركة ولشعبنا الفلسطيني وقضيته الوطنية التي تواجه تحديات الحصار والعدوان الداخلي، وتقلبات البيئة الإقليمية، وعدوانية البيئة الدولية، فليس خافيا أن مشعل يقود مشروعا سياسيا منفتحا بدأت ثماره في التجلي خلال الفترة الأخيرة، ويفترض أن يواصل الرجل مسيرة عطائه حتى تتكلل بالإنجاز الوطني الكبير عبر تحقيق المصالحة وإرساء استراتيجية وطنية موحدة لحماية الصف الداخلي ومواجهة الاحتلال.
لكن، وما دام الفارس قرر أخيرا أن يترجل، فهذا قراره، وله منا، ومن أبناء شعبنا وأمتنا، وكل محبي شعبنا، كل الحب والوفاء والتقدير والاحترام.