عندما يتمنطق شعب بأسره بالشهادة عنواناً ويحاصر الموت ويلاحق الجلاد .. يبصق في وجه السجان .. يتجاوز حدود المكان .. تعلم أن لوناً نادراً من الشعوب الذين صرخوا في وجه فرطقات التقوقع والهزيمة يشمخ أمامك.
تغير الزمان وتقلبت قلوب... وبقي شعب المقاومة يدافع عن خياره الأوحد... ويحاصر الهزيمة.. يبقيها في زاوية الانكفاء... ويصفع الباب مقفلاً خلفه همهمات العبث وترانيم التراجع ...وارتقى صهوة المجد ودلف من بوابة الشهادة والاصطفاء والحرية المنتزعة رغم أنف العدو.. ارتقى شعب فلسطين بعد أن غدا علماً من أعلام الإلهام والجهاد والمقاومة وشجرة وارفة الظلال تلتجئ إليها الشعوب الباحثة عن الحرية، فتجد في ظلها سلوى الغربة، وحرارة الحرية والكرامة، وصيانة البيعة... فلم يقنع شعب فلسطين بأقل من العمل الدائم الدؤوب حتى كان وفاء الأحرار.. . وها هي غزة الجريحة تنهض شامخة تعبر بصبر حدود اليأس في ملحمة الأحرار بعد أن خطط الجمع المنهزم أن تحترق وحيدة بين الموت والحصار والحزن والأسلاك الشائكة. نعم غزة الجريحة تئن عزيزة.. ولكنها لا ترتعش على شاطئ الخوف.. ولن تبكي وحيدة.. سوف يبكي الآخرون.. ولن تغرق غزة في البحر.. ولكنها تصنعه حتى يغرق الباطل والظلم والعدوان والاحتلال..
جاءت غزة على قدر.. على ميعاد.. ميلادٍ جديدٍ.. ميلادٍ عظيمٍ.. فما أعظم حياة الجهاد والعزة، وما أقدس لغة الكرامة، كانت غزة دوماً تنتظر لحظة ولادة العزة.. وتأبى الموت الطبيعي.. وانفجرت في لحظة هدوء.. أيقظ دوي الانفجار مساحات العمل.. وأعاد الفكرة بعد أن ذهبت السكرة واستيقظ الجمع .. فإذا السراب يلف الواهمون بالسلام ومسيرته الخائبة الخاسرة، وغزة تحاصرهم.. وقطع لحمها الممزق تقذفهم، ودمها النازف يكتب على كل الأزقة النور والبرهان على صدق الطريق وحسن التوجه لله رب العالمين. إنه الفوز.. إنها العزة وما أجملها من رحلة... شفاء الصدور... إنها ملحمة الأحرار في غزة الانتصار، إشراقة أمل على طريق التحرير.. فسلاماً لغزة الصابرة المتفجر ثورة وناراً وبركاناً ... سلاماً لغزة وقد كتبت بالمجد تاريخاً .. سلاماً لغزة وهي تقدم الأنموذج.. سلاماً لغزة وهي تمنح شعبنا الحياة في ذكرى وفاء الأحرار..
سادتي جميعاً.. شهداء ملحمة الأحرار الذين بددوا الوهم.. سادتي يا أرباب الشهادة... سنذكركم لأنكم زرعتم فينا البقاء ولأنكم رسمتم فوهة النصر على امتداد (خارطة الوطن)، سنظل نلمحكم لأن أنفاسكم ممزوجة بعطر اقحواننا... وخضرة أرواحكم من خضرة زيتوننا... وأصواتكم خفقات أفئدتنا... سنذكركم لأنكم ستهبون مع نسائم الوطن، وستورق ذكراكم على فصوله الأربعة... وسيتمدد ظل أجسادكم الطاهرة على شواطئ أرواحنا، فقد درجت أحلامنا مع شذا بطولاتكم خطوتها الأولى، بعد أن ظلت مختبئة في مناماتها وهي تطل على استحياء أمـداً طويلاً.
سادتي الأحرار الذين ولدوا مجدداً من بطن الحوت … يا سادة الوفاء سنستلهم منكم ما نشاء، سنعيش على ومضات جهادكم، وسنقطف من أشجاركم عشر وصايا لأطفالنا… سنأخذ منكم ما يجعلنا أقوى وأبقى… وسننقش أسماءكم على صدور صغارنا… سنقص عليهم روائعكم مع طالع كل شمس، حتى لا يخبو حنين المقاومة في فطرتهم، وحتى إذا ما كبروا وسألوا: أين ألوية القسام؟ دونكم الواثقون كأسلافهم أصحاب العطاء الملحمي الثائر... أعلام بارزة في الجهاد والتضحية ، ومنارات سامقة حجبت الظلام وأنارت دروب الجهاد، فكانت شامة في جبين الزمن والوطن، ونموذجاً مشرقاً للعزة والكرامة.. الأحرار في ملحمة الوفاء إشراقة مجد وفأل سعد، ومؤذن فجر، وعنوان صدق، وينبوع صفاء، وقمة عطاء.
فلسطين اليوم في ذكرى وفاء الأحرار ترتدي أزياء النصر والعز والفخار... وتتمتم بصوت مرتفع نحن لأولئك الأحرار خلف القضبان ندافع عنهم ونثأر لسرقة زهرات شبابهم ونطلق من أجلهم وفاء الأحرار لمن بقى خلف الأسوار... بكثير من العزة.. تصرخ فلسطين.. سنمسح الدمعة، ونوقظ الهمة. تهز فلسطين أغلالها... علّ الضجيج يوقظ النائمين.. تئن فلسطين دماً تـنـفـثه بمرارة وحسرة.. رغم ذلك فإنها تلملم جراحها وتلعق دمها الساخن الذي يصنع جداول في طرقات الثورة المفتوحة.. تضم فلسطين أبناءها إلى صدرها.. دم فوق دم.. أشلاء فـــوق أشلاء.. حجر فوق حجر... ملحمة إثر ملحمة.. قواعد البيت الذي يضم شتات الحلم ويخلق فلسطين.. الوهج الذي لا ينطفئ.