شئنا أم أبينا، رضيت رام الله وفصائل منظمة التحرير أم لم ترضَ، فإن زيارة أمير قطر أول أمس إلى قطاع غزة كانت زيارة تاريخية بكل معنى الكلمة، وشكلت قوة معنوية دافعة في وجه الحصار الشرس المفروض على القطاع منذ ست سنوات.
حين تقف السياسة موقف الضد والنقيض مع الإنسانية فإن على السياسة –حينئذ- أن تتنحى جانبا، وحين تتنافس المصالح الفئوية والحزبية في ميزان التفاضل مع معاناة الناس فإن على هذه المصالح أن تسقط بامتياز، فكيف لو كانت السياسة من المشتبهات التي تضرب الشكوك مصداقيتها، وبلغت المصالح الحزبية دركا هابطا لم يسبق له مثيل؟!
تخوفات البعض من آثار الزيارة ليس لها ما يبررها على الإطلاق، فهي تدور في فلك التخمينات والتكهنات لا أكثر، وتعجز عن قراءة الزيارة قراءة سليمة تتساوق مع معطيات وظروف الواقع الفلسطيني والإقليمي والدولي الراهن.
شبهة تكريس الانفصال والانقسام هي أكثر ما يزعج المتخوفين من الزيارة وما بعدها، وهي مظنة سوء في نظر البعض الذي يتباكى على الوضع الفلسطيني الداخلي ومآلاته المؤسفة، وكأنّ الزيارة سوف تمنح غزة وضعا سياسيا خاصا، وتفتح لها آفاق العمل والانطلاق، وتطوي صفحة الحصار إلى الأبد!
رويدكم، ما هكذا تورد الإبل يا قوم، ولو أن كل من يتعاطى السياسة والعمل الحزبي في العالم مثلنا نحن الفلسطينيون لخَرُبَت السياسة وأسنت الحياة الحزبية وسادت الفوضى وعمّ الاضطراب.
المبالغة التي تبلغ حد الإزعاج، وتحميل الأمور فوق ما تحتمل، تشكل إحدى سمات العمل السياسي والحزبي الفلسطيني، وبلغة أصح فإنها تشكل داء مزمنا هدّ –ولا يزال- الجسد الفلسطيني المثخن بالأمراض والجراحات.
من يتجرّد من الأهواء السياسية والحزبية فإنه يرى في الزيارة أبعادها الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية الهامة، ويعاين فيها وجها مشرقا لحالة عربية جديدة وناهضة تحاول الوفاء بواجباتها الدينية والعروبية تجاه غزة المحاصرة، وتخفيف جزء من معاناتها الكبرى وإنقاذها من بعض أزماتها المستعصية قدر الإمكان.
أما الحديث عن الاستثمار السياسي للزيارة الذي تستحثّه الدبلوماسية القطرية، وما قيل في هذا الجانب من تحليلات واجتهادات، فإن هذا شأنٌ يخص القطريين وحدهم، وهو –بلا ريب- حق من حقوقهم، ومن العيب أن ننكر على الدبلوماسية القطرية مفاعيلها النشطة في وقت نصمت فيه صمت القبور على المال السياسي المسموم الذي يَرِدُ جيوب السلطة من مزاريب الدول المانحة من جهة، ونتجاهل أبسط أسس وقواعد العمل السياسي والدبلوماسي المعروفة التي تنص على أحقية بل وضرورة سعي الدول لنشر أشرعة عملها السياسي وجهدها الدبلوماسي خارجيا بما يحقق أهدافها ومصالحها من جهة أخرى.
غزة تستفيد اليوم أكثر ما يكون إنسانيا واقتصاديا من زيارة الأمير القطري، ولا يعني ذلك أنها لا تستفيد سياسيا في إطار مغالبتها لمشهد الحصار المضروب، لكن هذه الاستفادة تبقى في المقام الأول رمزية ومعنوية في ظل استمرار التآمر الإقليمي والدولي على غزة، وعدم وجود ما يشير إلى تغيّر جذري أو اختراق جوهري لمعادلة الحصار والعدوان القائمة.
كلّ من يقدم لغزة دعما غير مشروط نصدح في وجهه بآيات الشكر والتقدير والعرفان، فغزة بحاجة إلى كل قطرة دعم عربية وإسلامية، ومن يتباكى على المصالحة ويتخوف من تعميق الانقسام على إيقاع زيارة أمير قطر فإنه يجانب الصواب، ويخطئ قراءة الواقع، إن كان مشفوعا بحسن النية، أو يجسد إثما حاك في صدره إن كانت نيته في الاتجاه الآخر.