ما يميز ساحتنا السياسية العربية عن مثيلتها الدولية أن الأخيرة قد أرست عقدا سياسيا توافقت في إطاره كل المكونات السياسية على قبول واحترام الآخر، ورسخت قواعد معيارية صارمة شكلت ناظما عاما للعمل السياسي والحزبي الذي يضع مساحة للتباين والاختلاف بما لا يمس القيم والتوافقات الأساسية.
وهكذا، لا تجد في الغرب من يحاول إقصاء الآخر، ولا تجد من يدبر المكائد ويحيك المخططات للانقلاب على أي حكومة أو سلطة منتخبة، بل تجد معارضة سياسية وحزبية ملتزمة بالحدود والهوامش المتاحة ضمن إطار القيم الديمقراطية ومبادئ القانون والنظام العام.
في الغرب يسير العمل الحزبي والسياسي في إطار من النضج العام رغم المعارك السياسية والإعلامية التي تخوضها الأحزاب في بعض الأحيان، بينما تطغى الفوضى والارتجالية والسلوك الانقلابي على أداء معظم الأحزاب في منطقتنا العربية.
في مصر ما بعد الثورة لم يكد الرئيس مرسي يتولى مقاليد الرئاسة حتى انتفضت في وجهه عواصف الأحزاب، وباشرت بإطلاق الاتهامات التي تدين مواقفه وسياساته دون أن تمنحه فرصة اختبار واحدة، وحكمت عليه بالفشل التام، ولم تنقضي من الأيام سوى النزر اليسير حتى أسس البعض تكتلات وتجمعات حزبية تستهدف وفق ادعاءاتها "إنقاذ مصر" و"حمايتها" من الخطر الإخواني المزعوم.
ولا يختلف الأمر كثيرا في تونس ما بعد الثورة عنه في مصر، فقد قدمت العديد من الأحزاب التونسية تجربة مراهقة أرهقت كاهل الترويكا الحزبية الحاكمة هناك، وأشاعت أجواء من الفوضى والاضطراب في الساحة التونسية، وعرّضت منجزات ثورة الياسمين لخطر التبديد والاندثار.
وليست بقية الدول العربية أفضل حالا من الحال المصرية والتونسية، وبرأيي الشخصي لا تكاد تجد تجربة حزبية عربية تقدم مقاربات حزبية أقرب إلى القبول سوى التجربة المغربية التي تحاول تقديم نموذج سياسي جيد يتعاطى القيم السياسية من منطلق المصالح العليا للدولة، ويعمد إلى تقنين الخلافات على الساحة الحزبية، ويعطي فرصة لإنفاذ المبادئ الأساسية الحاكمة للعمل السياسي والحزبي في إطار النظام السياسي المغربي، وأهمها احترام النتائج التي يتمخض عنها صندوق الاقتراع، والالتزام بتداول السلطة أيا كان الفائز في الانتخابات، والتزام النهج والأسلوب الديمقراطي في إطار الممارسة السياسية والحزبية.
التطرف السياسي سمة أساسية ملازمة للعمل الحزبي العربي، ولا يبدو التغلب عليها سهلا بالنظر إلى ضعف الالتزام القيمي وسيادة المصالح الشخصية والفئوية التي تبيح اجتراح الكثير من الممارسات اللا أخلاقية في إطار أداء وسلوكيات الأحزاب العربية.
لا زال أمامنا كعرب الكثير من الجهد والكثير من المخاض كي تستقيم حياتنا العربية على جادة الحق والصواب، ولن يعود للعرب كيانيتهم المفقودة ووحدتهم الضائعة وكلمتهم السليبة ما دامت أحزابهم تغني على لياليها الخاصة، ولا تجد حرجا في نبذ القيم والأخلاق والمبادئ في سياقات عملها السياسي والحزبي.
إصلاح الممارسات الحزبية العربية يشكل شرطا لاستقامة الأوضاع السياسية في المنطقة العربية، ولا يتأتى ذلك إلا عبر إصلاح المنظومة القيمية الحاكمة لأداء وسلوكيات الأحزاب، وهو هدف بالغ النبل والأصالة دونه الكثير من العنت والمخاض والآلام.