مع اغتيال القائد الكبير أحمد الجعبري -رحمه الله- تكون (إسرائيل) قد اغتالت مرحلة، واختطت الطريق لمرحلة جديدة في مواجهة المقاومة الفلسطينية.
كنت قد فرغت من تدوين مقالة حول دروس السياسة والميدان التي حملتها جولة التصعيد الأخيرة، ولم أكن أدرك أن الانفجار الكبير قاب قوسين أو أدنى، وبأسرع مما اعتقد الكثيرون.
جريمة اغتيال الجعبري تخلط كل الأوراق، وتعقّد كل الحسابات، وتنهي تماما من القاموس الميداني مصطلح "جولة" الذي اعتدنا على وسم تضاريس الصراع والمواجهة مع الاحتلال به، وتؤذن ببدء مرحلة جديدة من المواجهة المفتوحة مع الاحتلال.
يصعب رسم معادلة عقلانية مكتملة المعالم والأركان تسير على هديها المقاومة الفلسطينية في ظل الشحن العاطفي الهائل الذي يولده استهداف قيادي كبير بوزن القائد الجعبري، وفي ظل بدء العملية العسكرية (الإسرائيلية) لاستهداف حماس وقوى المقاومة التي أطلق عليها اسم "عنان السماء".
ومع ذلك، ينبغي الحذر البالغ من مخططات الاحتلال التي تحاول إفقاد حماس وقوى المقاومة صوابها ودفعها إلى كشف كل أوراق القوة لديها، وحشرها في أتون مواجهة كبرى مفصلة تماما على المقاس (الإسرائيلي).
لا مفر من المواجهة ودفع الثمن، فالاحتلال قد فرض توقيت المعركة هذه المرة، ولن يفتأ استكمال باقي عناصر خطته العسكرية المقرة إزاء ضرب غزة واستهداف قوى المقاومة.
في مواجهة هذا التطور الخطير يجب على الحكومة وقوى المقاومة أن تبادر إلى سلسلة من الخطوات العاجلة والإجراءات الدقيقة على المستوى الميداني والسياسي والإعلامي والجماهيري.
ميدانيا، ينبغي إعلان حالة الطوارئ القصوى في أبعادها العسكرية والأمنية والصحية والإدارية، وتشكيل غرفة عمليات عسكرية تضم كافة القوى والتشكيلات العسكرية الفاعلة والحية بهدف تنسيق وتأطير الجهد المقاوم وضمان تركيزه ميدانيا بما يحقق أعلى قدر ممكن من الأهداف الموضوعة.
سياسيا، ينبغي إطلاق حملة نداءات ومناشدات عاجلة للإخوة والأشقاء العرب، وعلى رأسهم مصر والجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، بهدف التدخل الفوري لوقف المذبحة التي يخطط لها الاحتلال ضد أهالي القطاع، وإلزام المجتمع الدولي بوضع حدّ للتغول (الإسرائيلي) الهائل على غزة وأهلها الصامدين.
إعلاميا، ينبغي تشكيل غرفة عمليات إعلامية مشتركة تضم كافة الأطياف السياسية والمؤسساتية بهدف توحيد الجهد الإعلامي الرامي إلى فضح الاحتلال وتعرية جرائمه على المستوى الإقليمي والدولي.
جماهيريا، ينبغي أن تُسيّر الفعاليات الجماهيرية الكبرى أمام مقار الأمم المتحدة ومكاتب التمثيل الخاصة ببعض الدول الهامة في غزة، بهدف إيصال رسائل شعبية موحدة تناشد المجتمع الدولي ودوله الفاعلة التدخل العاجل لوقف العدوان، وتضعهم أمام مسؤولياتهم القانونية والإنسانية والأخلاقية في حماية المدنيين الأبرياء من البطش والعربدة والإرهاب (الإسرائيلي).
ويحيط بذلك كله موقف وطني عال ومسؤول يجب أن يضطلع به الرئيس "أبو مازن"، فهو يقف اليوم أمام محك الاختبار العملي في مواجهة العربدة (الإسرائيلية)، وبه تناط مسؤوليات الاصطفاف إلى جوار أبناء شعبه الذين يتعرضون للنار المحرقة في قطاع غزة، وتفعيل سبل التواصل الإقليمي والدولي في مواجهة الحملة (الإسرائيلية) الجديدة على القطاع.
لا نملك الكثير من أوراق القوة في مواجهة سعة القدرات العسكرية للاحتلال وتفوق ترسانته الحربية، لكننا نملك إرادة الصمود والتحدي والثبات على هذه الأرض الطاهرة المباركة، وهو سلاح معنوي وأخلاقي محصّن بقوة الحق الذي تكتنزه قضيتنا العادلة وغير قابل للانكسار بأي حال من الأحوال.
صراعنا مع الاحتلال لا زال طويلا، ويعتمد أساسا على سياسة النفس الطويل وامتصاص الضربات ومراكمة الإنجازات، وهو صراع دامٍ وقوده الدم والعرق والدموع، ولا يتألم فيه الفلسطينيون لوحدهم بقدر ما يتألم الصهاينة الآخرون.
الحملة الجديدة التي بدأها الاحتلال على غزة، صغيرة كانت أم كبيرة، لن تحقق أهدافها، وستمضي حملة "عنان السماء" كما مضت حملة "الرصاص المصبوب"، وسيبقى شعبنا ومقاومته الباسلة شامخا عزيزا وأكثر تجذرا بأرضه وتمسكا بحقوقه، ولن ينال منه إرهاب الاحتلال رغم كل الآلام والمحن والجراح والتحديات.
رحم الله الشهيد أحمد الجعبري وكل الشهداء، وعوّض شعبهم عنهم خيرا، وألهم ذويهم الصبر والسلوان.