كما فعلت أميركا في كوسوفو وأفغانستان والعراق، استهدفت "اسرائيل" وسائل الاعلام في عدوانها الحالي على قطاع غزة.
ما فعلته أميركا، لم يمنع الصحافيين من التسابق الى مناطق الخطر سعياً وراء التميز والسبق أو لتحقيق عائد مادي لا يتوفر في مناطق وظروف الحياة العادية، مدفوعين أيضاً بقناعة مهنية تقول أن الصحفي الحقيقي هو الذي يعمل في الميدان وليس من يجلس في مكتبه يعيد انتاج ما كتبه أو نشره ـو رصده غيره.
من الصحفيين من نقل صورة أو معلومة وغير بها مجرى معركة، أو أثر بها على مستقبل زعيم، أو هز بها أركان دولة
لم يكن للصحفي في العصور الماضية شيئاً من حظوظ الحماية من الأخطار، الى أن أدركت المجتمعات المتمدنة والشعوب المتحضرة قيمة حملة القلم والكاميرا وآلة التسجيل الذين هم نافذة الجمهور على الحقيقة والمعلومات
منذ النصف الثاني من القرن العشرين بدأ الصحافيون في ادراك خطورة دورهم وتأثيرهم، كما أدرك صانع القرار السياسي والاقتصادي والعسكري أهمية الصحافيين، وباتت علاقة الصحفي بالسياسي سيفا ذو حدين، فاما أن يكون بوقاً للسياسي ومروجاً لافكاره أو برامجه، واما حارساً أميناً للحقيقة
لذا ركزت المواثيق الأخلاقية ومواثيق شرف العمل الصحفي في كل بلدان العالم على ضرورة استقامة الصحفي واستقلاليته، وصارت حرية الصحافة مؤشرا على تقدم المجتمع وتطور الدولة.
بهذا المفهوم، تعتبر الرقابة الصارمة التي تفرضها دولة العدو على الاعلام، والتعتيم على المعلومة، واحتكار الحق في التصرف بها، مؤشراً على عدم حضارية هذه الدولة، وانغلاق عقلية قادتها واعتلال نفسياتهم. كما تعتبر الرقابة التي تفرضها دولة العدو على الاعلام مؤشراً على أن هناك ما تخشاه، وعلى أن الحقيقة تؤذيها، وتؤثر سلباً على سلوكها ومخططاتها ونواياها الآنية والبعيدة.
لكن انفتاح الفضاء والتقدم في وسائل الاتصال يجعل سيطرة هذه الدولة المتخلفة بالمعنى الحضاري، محدودة ضمن مناطق سيطرتها الجغرافية، ولا سيطرة لها على حركة المعلومة خارج حدودها الجغرافية. هذا دفع ويدفع وسيدفع هذه الدولة دائماً الى محاولة تعطيل انتقال المعلومة بالوسائل الوحيدة التي تتقنها، الارهاب والعنف والدموية.
أبسط هذه الأمور وأنا على ثقة زملائي الصحافيين في قطاع غزة يعرفون بالضبط أين يقفون. هذا هو السياق الذي يأتي فيه وجودكم في هذا المكان من الناحيتين الجغرافية والمهنية.
ان من لا يتوقع من الصحافيين في غزة التعرض للخطر، فأمامه خياران: اما أن يغادر هذه المهنة، واما أن يتحمل ما سيدفعه من ثمن في سبيل خدمة الرسالة الانسانية السامية التي يحملها العمل الصحفي.
الصحفي هو حارس بوابة الحقيقة، وهو بهذا المعلم لأفراد مجتمعه، الرقيب على سلوك المسؤولين، المدافع عن حقوق المظلومين الناقل للحقيقة التي لا يحب نشرها المتنفذون وأصحاب المصالح أشخاصاً أو جماعات.
ان الصحفي في قطاع غزة، له غاية واحدة: فقط أن ينقل للعالم ما يرى وما يسمع وما يستقر في جنانه من انطباعات. الانطباع هو ما يستقر في الذهن عن طريق الحواس، ووجود الصحفي في غزة، في وقت يعتدى فيه على حياة الانسان، وأمن الآنسان، وقوت الانسان، وحرية الانسان، هو خطر داهم على الطرف المعطل للحرية والأمن والانسانية، والذي هو في هذه الحالة: العدو الاسرائيلي، الاحتلال.
ان استهداف حياة الصحفيين أو حتى مجرد ترويعهم، وارسال رسائل تهديد دموية لهم، هي أمور نابعة من ادراك العدو لخطورة ما يقوم به الصحفيون، الذي هو ببساطة نقل ما يدور. ان ما يدور في غزة الآن فضيحة أخلاقية للعدو وللمتشدقين بالحرية والديمقراطية وحقوق الانسان من أنظمة االعالم الداعمة للاحتلال المساند للعنصرية. وهذا ما يفسر الصمت المطبق للعالم الغربي عن جرائم العدو ضد الصحفيين، لأنهم ببساطة مشاركون في الجريمة، التي بدأت باقامة هذا الكيان، وتعزيز وجوده وحمايته والحرص على أمنه وتفوقه. هم مشاركون في الجريمة، ولا يريدون لأحد أن يتحدث عن هذه الجريمة، لذلك نراهم يسكتون عن استهداف الصحفيين ولا يتحرك لهم ساكن. الصحفيون في غزة بحكم وجودهم الجغرافي والسياسي في قلب هذا المعترك يقفون على طرف نقيض من مجرد وجود هذا الكيان، فضلاً عن سياساته وممارساته.
المتوقع من المقاتلين بالكلمة والصورة في سبيل الحق والحقيقة، أن يعملوا بشكل وحدوي جماعي فيما يتعلق بمهنتهم. أن انقسام نقابة الصحفيين فضيحة وجريمة سيأتي يوم يحاسب عليها من تسبب فيها. ان وقوف الصحفيين في الضفة متضامنين مع الصحافيين في غزة في محنتهم وفي تعرضهم للقتل المتعمد هو أمر ينسجم تماما مع ادراك الصحفي لرسالته ودوره وهو موقف ينبغي أن ينزل منزلته التي يستحق من التقدير والاحترام.
في ذات الوقت، أرى في تركيز بعض الصحفيين على شرح معاناته واظهار نفسه أو مؤسسته على أنه هو وحده المستهدف أمر ليس فيه حصافة كبيرة، لأن أي اعتداء على أي صحفي ينبغي أن يوضع في سياق جمعي على اعتبار أن المستهدف هو كل من ينقل الحقيقة، وليس تلك المؤسسة أو ذلك الاعلامي، لكن العدو يختار وربما عشوائياً أن ينقل رسالة عن طريق الجزء البعض الى الكل المجموع
ان التركيز على استهداف الاعلاميين لا ينبغي أن ينسي الصحافيين مهمتهم الأساسية، ورسالتهم الأصلية، فليست المسألة مواجهة بين اسرائيل وفضائية بعينها، أو اذاعة بمفردها، ان المسألة الجوهرية هي المواجهة بين دولة الاحتلال والعدوان والشعب الفلسطيني بأكمله بقيادة المقاومة الباسلة.
ان استهداف الصحفيين يأتي في اطار استهداف المقاومة، لأن هدف المقاومة هو استعادة الحق، وهدف الاعلامي هو الوصول الى الحقيقة. ان الحق والحقيقة متشابهان في الحروف ومتطابقان في المعنى والمضمون والدلالة.
ان رفاق الدرب من الاعلاميين في غزة يصنعون التاريخ. أنهم يتواجدون الآن في لحظة مكانية وزمانية، سيتحدث عنها التاريخ لأجيال قادمة. أن ما يكتبونه وما يقولونه، وما تلتقطه كاميراتهم من الصور هو المواد الفعلية التي تشكل حروف اللغة التي يكتب بها التاريخ.