قائد الطوفان قائد الطوفان

غاب عنها 20 عاما

عندما يثور وادي غزة

منطقة المغراقة تغرق بمياه وادي غزة
منطقة المغراقة تغرق بمياه وادي غزة

 

هل تصلح الحكومة أخطاء سنوات من البناء حول ضفتي الوادي؟

المتضررون اعترفوا  بالبناء في منطقة غير قانونية

سماسرة باعوا  قسائم غمرتها المياه وقضت على أحلام أصحابها

غزة-محمد بلّور

تشابكت الألوان في قرية المغراقة بعد فيضان وادي غزة, وحلّت المياه القادمة من الشرق ضيفا ثقيلا على أمسية الاثنين فلوّنت القرية بأشكال من المعاناة وألحقت أضرارا بعشرات المنازل.

حتى الخراف الهانئة قرب ضفتي الوادي لم تحظ بمحاولة الهرب فقد غمرتها المياه في دقائق وانشغلت طواقم الإنقاذ بالوصول إلى العالقين بين الأشجار وفوق أسطح منازل حاصرتها المياه.

 وكانت قوات الاحتلال سمحت للمياه القادمة من النقب باجتياز السدود والدخول لمجرى وادي غزة ما أدى لارتفاع منسوب المياه على ضفتي الوادي بدءا من شرق مخيم البريج ومنطقة جحر الديك وصولا لقرية المغراقة حتى انتهى المطاف إلى شاطئ بحر النصيرات.

وتقدر عدد المنازل المتضررة في قرية المغراقة بسبعين منزلا وقرابة 500 رأس من الماشية وعدد من مزارع الدواجن بينما سجلت أضرار في منطقة جحر الديك في أراضي المواطنين وقرابة عشرة منازل.

فوق الجسر

السترات الملونة وأضواء عربات الإنقاذ انتشرت على شارع صلاح الدين وضفتي الوادي في حالة استنفار أشعلها الضيف القادم على غير موعد.

فوق جسر الوادي ناول أحدهم العقيد يوسف الزهار مسئول الدفاع المدني مصباحا ضوئيا بعد أن أخرجه من صندوق كرتوني , الزهار سلّط الضوء أسفل الجسر فكشف شعاع النور عن تدفق هائل وعنيف للمياه التي ارتفع منسوبها لأكثر من مترين.

وتنقل الزهار بين جانبي الجسر لتقدير الموقف قائلاً: "نطمئن الجميع بعدم وجود أزمة فهناك ارتفاع في منسوب المياه سيطرنا عليه حيث وصلت المياه للمناطق الزراعية جنوبا مسافة 300 متر و حاصرت شمالا المنازل على مسافة 150 مترا فقمنا بإخلاء المنازل مع كافة الطواقم ولا داعي للخوف!".

وقال الزهار إنه علم بوجود حالة طوارئ لدى الاحتلال وأن شهود عيان نقلوا للدفاع المدني أن الاحتلال فتح السدود الشرقية ما أدى لتدفق كميات هائلة محذرا من تكرار الأمر في شمال القطاع .

أما مدير الأشغال بمحافظة الوسطى محمد أبو عودة فقد تلفّع بغطاء للرأس ورداء من الصوف وقد بدا متوترا من هول الموقف وقال: "الجسر الواصل بين المغراقة والنصيرات انهار وغمرته المياه التي غطت 300 متر على الجانبين وقد أخرجنا السكان من ذلك النطاق وتدخلت قوارب الشرطة البحرية لإنقاذ العالقين".

هدير المياه أسفل الجسر اخترق كلمات أبو عودة حين أشار أن منسوب المياه ازداد بشكل فجائي وأن المياه المتدفقة استغرقت عدة دقائق للوصول إلى المغراقة واقتحام منازل المواطنين .

وعلى حافة الجسر شدّ اللواء عبد القادر العربيد مسئول الخدمات الطبية العسكرية قامته قبل أن يسطع ضوء المركبات المارة كاشفا عن رتبته العسكرية مضيفا "هرعنا كأجهزة وسيطرنا على كارثة كادت تقع ولا أفضل الاستماع لما تروجه بعض وسائل الإعلام".

وحافظ العربيد على هدوئه رغم برودة الجو مشيرا أن إغلاق الوادي لطريق صلاح الدين تكرر في الخمسينات فاصلا شمال غزة عن جنوبها بينما فاض الوادي قبل عشرين عاما مضت.

ولم يستبعد العربيد وجود خلفية سياسية للحادث وأن الاحتلال تعمّد إغراق غزة بالمياه بعد إيذائها بأشكال من العدوان.

السباحة وسط الوحل

ولم يتوقع مسئول الشرطة البحرية في النصيرات الملازم أيمن بارود أن خطة الطوارئ سيشتعل فتيلها في قلب وادي غزة.

التحذير من مياه الوادي تبعه فيضان هائل دفعه لاستنفار جنوده فأضاف: "مباشرة أدخلنا قاربا بمحرك من جهة البحر حتى وصلنا الوادي ثم أدخلنا قاربين بمجاديف لإنقاذ العالقين والمحاصرين وبدأنا بأخلاء السكان من منازلهم" .

وانهمك بارود برفقة مسئول الشرطة البحرية بالوسطى النقيب رامي نوفل في تقسيم المهمات الطارئة وإبعاد الناس عن نطاق الخطر مضيفا:"أول تجربة لنا بهذه الخطورة وقد واجهتنا مشكلة نقص المعدات".

أما مسئول الدفاع المدني في الوسطى النقيب أشرف أبو نار فأشار إلى أن الحادثة وقعت في اليوم الأول من حالة الاستنفار المعلنة مضيفا:"حركنا الطواقم للوادي وقامت المساجد بالمناداة على الناس بالإخلاء وأكثر المشاكل كانت في المنطقة التي التف فيها الوادي من اتجاهين فحاصر بعض العائلات " .

وتجمدت أصابع أبو نار على جهازه اللاسلكي وهاتفه الخلوي الذي لم يكف عن الرنين وهو يوزع الأدوار ويتابع الطواقم العاملة.

واستدعى الدفاع المدني طواقم الإنقاذ البحري والقوارب خاصة بعد أن ترددت الأنباء عن اثنين علقوا فوق شجرة وبعض المواطنين هربوا فوق أسطح منازلهم طلبا للنجاة .

وتمكنت الشرطة البحرية والدفاع المدني من إنقاذ 3 مسنين تجاوز عمرهم 80 عاما بالقوارب وسيدة حامل فيما كثرت الروايات عن  المحاصرين في منزل الشورباصي وسجل وقوع 7 إصابات طفيفة , واستمرت معركة المياه ساعتين .

منازل غارقة

خيوط الفجر كشفت عن منازل وطرقات موحلة بينما تناثرت رؤوس الماشية النافقة وسط مستنقعات المياه دون أن تتمكن من النجاة بجلدها .

وفيما انشغل الكبار بلملمة جراحهم وجد الأطفال كالعادة فرصة لممارسة هوايتهم بالمشي في الوحل .

حشد من الصحفيين ومندوبي المؤسسات الإغاثية توزعوا ورطنوا مع المتضررين بلغات ولهجات مختلفة.

تبدو علامات الذهول على وجه السيد نبيل القيشاوي 61 عاما وقد غاصت قدماه في الوحل واختفت معالم بيته الغارق .

يروي القيشاوي بداية القصة للرسالة:"أسكن هذا البيت وثمانية عشر فردا وعند السابعة النصف سمعنا المساجد تناشد بالإخلاء والحذر فخرجت ووجدت المياه تتدفق , لم أستطع المشي فعدت للبيت وقلت خذوا الأولاد ثم مشينا أربعين مترا فتفاجئنا بالمياه تغمر المكان حتى وصل الدفاع المدني وأخرجوا الأطفال " .

ويصف القيشاوي ما حدث له ولجيرانه بالكارثة فقد غمرت المياه منزله لمسافة تزيد عن متر وفقد كافة متاعه وفراشه , حتى بلاط البيت تلف ولم يبق للأسرة سوى ملابسها التي هربت بها-كما قال .

هربت الأسرة تجاه مفترق الشهداء حيث كان في انتظارها بعض الأقارب فأقلوهم لقضاء ليلتهم بمدينة غزة . 

في حجرة النوم الرئيسية دلّل قط نفسه فوق السرير غير عابئ بما حوله ولم يكن له ذلك في ميعاد آخر بينما تناثرت في باحة البيت أواني وملابس غارقة في الوحل.

تأمل نبيل سيجارته المشتعلة بين أصابعه للخروج من هول الكارثة التي أفقدته كل ما في البيت مضيفا:"جاءني الخبر وأنا عائد للبيت ولما وصلت لم أستطع الدخول بسبب المياه حتى أهلي نسوا ابن أخي حسن وعمره 4 شهور وهربوا وعندما أدركوا ذلك عادوا برفقة الدفاع المدني لإنقاذه " .

وبدأت المياه بمحاصرة منزل نبيل من الشرق حتى اقتحمته قاضية كل أشكال الحياة التي اقتصرت على بعض طيور الحمام الراقدة فوق بعض الأمتعة بينما غطى الوحل عددا من المقاعد وطاولة في الفناء.

العطر والوحل

وتثور رائحة عطر من ملابس صحفيين وصحفيات جاؤوا لإعداد تقرير قبيل الظهر , بعضهم تجرأ على الخوض في الوحل بينما منحت الكاميرات الآخرين الشجاعة لتنفيذ مهمة صحفية .

لفّ أبو عميرة كوفية بيضاء على رأسه وأشعل سيجارة نصف متسخة آسفا على حظه العاثر.

وأضاف للرسالة:"لدي 8 أبناء معظمهم أطفال وغرقت لي أربعون رأس ماشية ولا أدري ماذا أفعل ! وأنا رجل لا أقرأ ولا أكتب وأطفالي في الابتدائية –يشير بيده-المياه دخلت البيت وأخذت الفراش وكل شيء " .

وانتهزت أم عميرة لحظة صمت لتدلي بصوتها المنفعل قائلة:"تعالوا لتروا المياه , لقد تفاجئنا بها تغطي أجسادنا ففقدنا الفراش والطناجر ونحن مجردين الآن بلا مأوى" .

وتقبض أم عميرة براحتها على بطاقة هويتها مشيرة إلى ردائها الأسود الذي استعارته من جارتها بعد هلاك متاعها .

وأكدت أن ابنتها المتزوجة التي جاءت لزيارتها جرحت وهي هاربة من خطر المياه مضيفة:"كل شيء راح حتى طيور الحمام راحت ونمنا عند الجيران" .

مجزرة الدجاج

20 ألف دولار كانت مغامرة غير محسوبة للسيد خليل اللوح الباحث عن رزقه في مزرعة الدجاج.

ألقى خليل بجسده المتعب في الشمس بينما تكوّم حوله بعد الأصدقاء القادمين للمساعدة فأضاف:"هذه مزرعة للبيض, المياه اقتحمت المزرعة وهربنا فقتلت 1500 دجاجة وأتلفت أطنانا من الأعلاف".

واستدان خليل مبلغا كبيرا من المال ليبدأ مشروعه قبل أسابيع مع شريكه رفيق أبو الليل حيث لم تنتج المزرعة البيض بعد.

ولم ينج من الدجاج سوى 150 دجاجة انشغل بتقديم العلاج والدفء لها عسى أن تشفى ! مضيفا:" عمري 46 عاما وأسكن جوار الوادي ولم أر كهذه المياه , استمر تدفق المياه من السابعة والنصف حتى الواحدة والنصف بعمق متر ونصف ولما عدت وجدت الأضرار في مزرعتي ولا أدري كيف سأسدد ديوني!

أما شريكه رفيق أبو الليل فخسر حصته في مزرعتين للدجاج مضيفا:"أعمل في المزارع منذ 12 عاما ولم أتوقع أن تداهمني المياه وأنا بعيد عن مجرى الوادي لقد هلك الدجاج والأعلاف وهاهم-يشير بيده-6 عمال جاؤوا ليساعدونا" .

 وانشغلت الجرافات بردم الطرق الموحلة بالرمال فيما كان قطيع من الجمال يعاني من صعوبة الحركة , ورغم أن الجمال تتمتع بقدرة على السير في الصحراء إلا أنها تغلبت على عشرات الأمتار في الوحل بصعوبة .

طاولة البلدية

شبك رئيس بلدية المغراقة يوسف أبو هويشل يديه على طاولة مكتبه وقد جلس مقابله شريكه في الأضرار رئيس بلدية النصيرات محمد أبو شكيان .

وقدّر أبو هويشل الأضرار بالقول "تركزت المشكلة في حي أبو هريرة وحي التقوى وتضرر 70 منزلا والبنية التحتية وفقدت بعض العائلات مأواها ونفق 500 رأس ماشية وقد زارنا من ليلة أمس عدد من الوزراء والمسئولين وبدأنا بتوزيع معونات إغاثية" .

وأشار أن قريته منخفضة لا ترتفع سوى مترين عن الوادي مطالبا بإرجاع مجرى الوادي لمجراه الطبيعي .

وحول سماح البلدية لبعض السكان بالبناء قرب مجرى الوادي حيث معظم المتضررين يقطنون على مسافة عشرات الأمتار أجاب:"تدخلنا كبلديات لوقف بنائهم ولم نمنحهم تراخيص وفي عام 2006 خطابنا الوزارات المعنية وسلطة الأراضي دون جدوى" .

وقال رئيس بلدية النصيرات محمد أبو شكيان إن أجزاء من مخيم شمال وغرب النصيرات تعرضت للخطر ما اضطرهم لإخلاء بعض المنازل مضيفا:"لابد من معالجة سلبيات السكن في حرم وادي غزة وتقاسم المسئولية بين البلديات والحكم المحلي وسلطة الأراضي" . 

ورغم غيابه 20 عاما عن الفيضان إلا أن مياه وادي غزة عادت بعرض عشرات الأمتار مهددة حياة عشرات الأسر التي سكنت ضفتي الوادي , فهل سيعفي المتضررون أنفسهم من المسئولية معترفين ببنائهم في منطقة غير قانونية أم ستتخذ الحكومة موقفا جريئا لإصلاح خطأ سنوات مضت حين سمحت لهم بالبناء حول ضفتي الوادي وسمحت لسماسرة الأرض ببيع قسائم غمرتها المياه وقضت على أحلام أصحابها؟!

 

البث المباشر