بدأت حرب غزة الثانية وانتهت في سبعة أيام وبعض من اليوم الثامن، وبالمقارنة بالحرب الأولى فيما بين نهاية عام 2008 وبداية عام 2009، فإن الحرب الأخيرة كانت الأقصر عمرا، وربما الأقل تدميرا، ولكنها الأكثر غموضا، وفيها كانت الشهادة كيف يتغير العالم خلال سنوات قليلة.. فلم يكتمل العام الرابع بعد الحرب الأولى حتى كان المشهد غريبا؛ فلم يعد حسني مبارك رئيسا لمصر، ولا ظهرت شخصية عمر سليمان على شاشات التلفزيون، وكان جورج بوش يلملم أوراقه خارجا من البيت الأبيض، ولكن بشار الأسد كان واقفا شامخا في دمشق، أما أسامة بن لادن، فقد كان حيا، وإسرائيل كان فيها رئيس وزراء آخر.. وحدها بقيت غزة محكومة من حماس، ولديها شخصيات شاخصة على المسرح من أول إسماعيل هنية، وحتى خالد مشعل، ولم يكن أحمد الجعبري قد ذاع صيته بعد في أعقاب تسليم الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط.
الشهداء وحدهم كانوا ثابتين، والتدمير كما هو في عادة كل الحروب، ولكن التاريخ لا يعيد نفسه، ومن يظن ذلك ربما يفوته كيف ستكون الحرب المقبلة. راقب هنا سمة جديدة على الصراع العربي - الإسرائيلي الذي عاش كل العصور سواء كان للاستعمار أو التحرير.. الحرب الباردة أو العولمة.. الحروب بالأصالة أو تلك التي بالوكالة، مع أشكال مختلفة من العنف الذي يبلغ الذروة في حرب كلاسيكية مثل حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، أو حرب لم تعرف مثلها حرب مثل الانتفاضة الفلسطينية الثانية.. صمد الصراع لكل فنون الحرب التي تغيرت، والأزمنة التي صعدت فيها دول واختفت أخرى، ومن سمع ذات يوم عن طرف أصيل في الصراع مثل الاتحاد السوفياتي، سوف يقلب الصفحات سريعا بعد اختفائه كلما جاء اسم روسيا الاتحادية.
الحرب التي انتهت توا جاءت في عصر جديد يمكن تسميته للاختصار والتمييز عن عصور أخرى: «الربيع العربي». وربما حرص المؤرخون على أن يضيفوا «ما بعد الربيع» على الفترة الزمنية لكي يؤكدوا على نهايتها، أو يبقى الأمر على ما هو عليه. وعلى أي الأحوال، ربما كانت الحرب اختبارا للعصر الجديد، ومن الجائز أن يصر العارفون بحتميات الجغرافيا على أن الدور المصري ربما تغير بعض من تقاليده، ولكن ما كان موجودا في الحرب الأولى لم يختلف كثيرا عما جرى في الحرب الثانية. ولكن المسألة لا يمكن التعامل معها هكذا، فالألوان والظلال والسرعات مختلفة بشدة. ولمن لا يعلم، فإن التاريخ مكون تحديدا من هذه الاختلافات التي هي في جوهرها تناقضات جدلية تتفاعل بطرق مختلفة ربما لتحقيق تطورات لم يكن ممكنا تخيلها من قبل.
المثال الواضح هنا مرة أخرى هو الدور المصري؛ حيث لم يكن ممكنا فصل الإدارة المصرية لأزمة غزة عن تلك التطورات المثيرة التي جرت بعدها مباشرة في مصر ذاتها.. من ناحية، صرفت الحرب الأنظار عما يجري الإعداد له حتى إنها جاءت مفاجأة تماما لكل القوى التي تتصور أن الموضوع هو إدارة العمل في الجمعية التأسيسية والكيفية التي يجري بها وضع دستور جديد. فما حدث اشتمل على كثير من التفاصيل، بعضها قانوني لوضع التوجه السياسي العام للانفراد بالسلطة حتى بشكل مؤقت، في إعلانات ووثائق دستورية وقانونية. قبلها كانت اللقاءات الثنائية مع قيادات المعارضة المختلفة وسيلة لتمهيد الأرض للقول إنه لم يعد هناك حل آخر، خاصة أن جماعات متطرفة خلقت عرضا إضافيا عنيفا في شارع محمد محمود المطل على وزارة الداخلية المصرية.
حرب الأيام السبعة أعطت فرصة لدور مصري لا غنى عنه في منع انفجار أزمة عربية - إسرائيلية كبرى، وفى الوقت نفسه أعطت زمنا لكي يتم تجهيز الحشود التي سوف تأخذ مواقعها عند دار القضاء العالي، والجماعات التي سوف تظهر فورا على كل القنوات التلفزيونية لكي يتم «تأطير» Framing ما سوف يلي من تطورات. وإذا كانت إزاحة العسكريين من السلطة في مصر فرصة لتتويج الرئيس مرسي رئيسا دون منازع على مصر، فإن حرب غزة كانت هي التي توجته زعيما إقليميا تشيد به الصحف الغربية والأميركية، خاصة الكبرى، وبدوره البناء.
كانت الظلال والألوان تعمل هنا بالطريقة التي يتحرك بها التاريخ جدليا بين عناصر شتى؛ فمصر «الجديدة» سوف تحرك بدورها عناصر أخرى. ومن الجائز تماما أن ذلك ساهم في أن الحرب لم تستغرق وقتا طويلا، ليس لأنها حسمت عسكريا، وإنما لأنها كانت حرب اختبار للمدى الذي يمكن أن يصل إليه الدور المصري، بالقدر نفسه الذي تختبر فيه فاعلية «القبة الحديدية» في مواجهة الصواريخ خاصة «فجر - 5» الإيرانية التي لم يتوان خالد مشعل في شكر إيران بسببها وهو الذي مدح الرئيس مرسي بالطريقة نفسها التي مدح بها الرئيس السابق مبارك في حرب غزة الأولى.
ولكن زعيم حركة حماس وضع البذور ربما لحرب أخرى عندما أعلن في المؤتمر الصحافي بالقاهرة، وبشفافية كاملة، أن هذه الصواريخ جاءت من إيران، ومن ثم لم يعد هناك أحد يحتاج إلى أدلة على أن إيران تخوض حربا بالوكالة في غزة كما فعلت من قبل في لبنان.
وهنا تحديدا تصبح «المباراة» أكثر تعقيدا من القدرة على فهم تفاصيلها، ومفاجآتها المتعددة بعيدا عن القدرات الإعلامية لكل طرف عندما يعلن عن فوزه سواء عندما قالت إسرائيل إنها انتصرت لأنها دفعت غزة إلى إيقاف إطلاق الصواريخ؛ وسيلتها الوحيدة حتى الآن لتحرير فلسطين، أو ما قالته حماس والجهاد الإسلامي بأن انتصارها جاء من إطلاق الصواريخ في المقام الأول رغم القبة الحديدية. كلا الأمرين لا يشكل انتصارا إلا بالقدر الذي يؤثر في المجرى الكلي للصراع، والمدى الذي يصل إليه في تحقيق الأهداف الاستراتيجية سواء كانت السيطرة على حماس، وربما قضية الشعب الفلسطيني كله، في غزة؛ أو تحقيق شكل من أشكال الدولة الفلسطينية المستقلة على كامل التراب الفلسطيني أو بعض منه.
انتهاء الحرب بهذه السرعة ربما يعني أمرا آخر، وهو أن الحرب لم تنته بعد، وأن كلا الطرفين، حتى بالمعنى التكتيكي للكلمة، ما زال لديه الكثير الذي يختبره. الإسرائيليون يريدون بالتأكيد إحكام عمل «القبة الحديدية»، والمدى الذي سوف يقبل به الجانب المصري الاستدراج إلى ساحة حاول فيها قائد مصري آخر الخروج من الخيوط العنكبوتية للصراع.
الفلسطينيون في غزة ما زال لديهم الصواريخ وقد ارتفع عنها الضغط المصري الذي كان سيسأل من أين لكم بها، وهى تصيب بمجرد الوصول إلى إسرائيل حتى ولو لم تؤد إلى خسائر، ولكن إصابتها الأكبر أنها تعطي القضية الفلسطينية كلها لحماس سواء في غزة أو الضفة الغربية أو حتى في العالم العربي الذي ثقلت عليه مهانة استمرار الاحتلال لسنوات طويلة.