لو سألت أحدا ممن يتسمون بــ "الثوار الجدد" الذين يبتغون الانقلاب على شرعية الرئيس مرسي في مصر عن الأسباب الوجيهة لمعارضتهم لمشروع الدستور المصري المعروض للاستفتاء منتصف الشهر الجاري، فإنك بالتأكيد لن تجد أي إجابة مقنعة، مهنية كانت أم سياسية.
ولو ناقشت رؤوس الانقلاب على مرسي (موسى – صباحي –البرادعي – البدوي) في دواعي ومسببات الإعلان الدستوري الذي أصدره مرسي، فإنك بالتأكيد لن تجد أي إجابة مهنية شافية، وستهطل عليك حمم الإجابات السياسية التافهة التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
لست ممن أيد ترشيح مرسي لرئاسة مصر لأسباب موضوعية لا تتعلق بكفاءة مرسي وقدراته الشخصية، ولا زلت أعتقد أن أبو الفتوح الأنسب لها في ظل الظروف والتعقيدات المحيطة، لكن انتخاب مرسي بقوة الإرادة الشعبية يمنحه الحق الكامل والشرعية التامة في إنفاذ مشروعه الوطني والقومي طيلة دورته الرئاسية في إطار الالتزام بالقانون والدستور، ويجعل من إعطائه الفرصة الكاملة خلال السنوات الأربع القادمة واجبا شرعيا ووطنيا وأخلاقيا وإنسانيا لا يماري فيه إلا حاقد حقود أو جاهل جهول، وكلاهما أحرى بالعزل السياسي والمواجهة الجماهيرية أيا كان الاسم الذي يحمله أو الصفة التي ينتحلها أو الدرجة التي يتبوأها.
الملاحظ أن مرسي لم يهدأ له حال أو يستقر له كيان منذ لحظة دخوله مقر الرئاسة المصرية. المجلس العسكري لعب لعبته من جانب، والمحكمة الدستورية والهيئات القضائية التي يحتل جزء كبير منها القضاة المسيسون من جانب ثانٍ، والقوى والشخصيات السياسية العابثة من جانب ثالث، وكلهم يستهدف تقويض حكمه الشرعي والدستوري وجعل مدة بقائه في سدة الرئاسة أشبه ما تكون بالاستظلال المؤقت تحت ظل شجرة وسط القيظ والهجير.
يقينا أن مصر تعيش حالة مخاض عسير في إطار تحولاتها المكلفة نحو إنفاذ الديمقراطية والالتزام بحكمها وأثمانها ومقتضياتها، لكن الأكثر يقينية أن الديمقراطية قد باتت وراء ظهور جزء مهم من النخبة السياسية المصرية التي تفتقد اليوم أي حسّ وطني أو أخلاقي، وتعيش انفصاما حادا بين الشعارات الرنانة الذين أرهقوا أسماعنا بها دهرا وبين الواقع العملي الرديء الذي يثبت فاشيتهم السياسية وانحطاطهم الأخلاقي.
كيف لنا أن نفسر التشبيه الساقط لمرسي بمبارك، وأن نتجرع عبارات "يسقط يسقط حكم المرشد" في حضرة القانون والشرعية الدستورية، وأن نتفهم اتهامات الساسة العابثين والحزبيين اللقطاء لمرسي بــ "أخونة الدولة" لمجرد تعيينه لمستشار هنا أو مسؤول هناك، وأن نستوعب حرق مقرات"الإخوان" ومحاولة اقتحام مقر الرئاسة والدعوة لرحيل مرسي وإسقاط النظام؟!
ذلك كله كفيل برسم صورة جلية متكاملة الأبعاد عن حقيقة المخطط الخبيث الذي تتوالى فصوله تترى لعزل مرسي وإسقاطه بمختلف الوسائل، وأن ما يجري يدور في إطار تصفية حسابات القوى اليسارية والليبرالية والقومية مع"الإخوان" من جانب، والرغبة في إفشال تجربة الإسلاميين في الحكم من جانب آخر.
مرسي اليوم لا يواجه مؤامرة داخلية مسعورة فحسب، بل إن ما يجري يتم صناعته على عين الإدارة الأمريكية وبعض الدول العربية التي تكشّفت معلومات موثوقة حول دورها في نشر الفتنة وتغذية التحريض وتأجيج الأحداث.
القضية ليست قضية الإعلان الدستوري أو مشروع الدستور الجديد، فالإعلان الدستوري مؤقت وتم قصره واختزاله في القرارات السيادية فقط بهدف حماية مؤسسات الدولة من يد الهدم والتخريب، ومشروع الدستور الجديد يلبي كافة احتياجات وتطلعات مختلف شرائح الشعب المصري، بل ويقيد سلطات وصلاحيات الرئيس ذاته.القضية أبعد من ذلك بكثير، وعنوانها انتظام حلف علماني آثم مجرد من كل القيم الوطنية والأخلاقية ومدعوم لدى البعض، إقليميا ودوليا، لإسقاط مرسي وإحباط تجربة الإخوان الحاكمة أو ما يسمونه "الإسلام السياسي" ليس أكثر!
اليساريون والقوميون والليبراليون الذين ينادون اليوم بإسقاط مرسي لم يتحركوا قيد أنملة حين تم حل مجلس الشعب بقرار سياسي ينتحل الغطاء الدستوري، ولم يتحركوا من قبل لدى إصدار المجلس العسكري الإعلان الدستوري المكمل، فهم يضربون اليوم بسيف مبارك وأتباعه من رجال الدولة العميقة الذين يسيطرون على أهم المفاصل القضائية والإدارية في مصر.
من يتواجدون اليوم في ميدان التحرير أو يحاولون اقتحام مقر الرئاسة ليسوا ثوارا حقيقيين بل فاشيون جدد بكل معنى الكلمة، وهم مع كل كلمة باطل ينطقونها في وجه مرسي أو تجمّع فتنة يسيّرونه لتخريب البلاد، يبصقون في وجه الثورة المصرية والديمقراطية المصرية والشعب المصري ويعلنون انسلاخهم عن قيم ومعتقدات وثوابت ومصالح الأمة.