قائد الطوفان قائد الطوفان

مقال: البرنامج الوطني في عيون مشعل

مؤمن بسيسو

أيا كانت القراءات السياسية التي أسهبت في تحليل أبعاد زيارة مشعل لغزة فإن هذه الزيارة آذنت بمرحلة جديدة في تاريخ الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية وصراعه مع الاحتلال الإسرائيلي، وجدت ترجمتها العملية وتجسيداتها الحقيقية في خطابات وتصريحات مشعل، ما شكل –بحق- خارطة تحرير حقيقية للشعب الفلسطيني ودستورا رصينا للعمل الوطني الفلسطيني خلال المرحلة المقبلة.

حجر الزاوية في الخارطة التي رسمها مشعل تمثل في جمع الموقف الفلسطيني، فصائليا وشعبيا، على الحقوق والثوابت الوطنية باعتبار ذلك أرضية الانطلاق نحو التحرير، والقاعدة الأساسية التي يرتكز عليها المشروع الوطني الفلسطيني.

لقد التقط مشعل أهمية اللحظة التاريخية السانحة ليضع نواة البرنامج الوطني في حِجْر قوى العمل الوطني الفلسطيني، ويهيئ للخطوة التالية (تحقيق المصالحة وإنهاء الانقسام) التي ستعبّد الطريق أمام بلورة الاستراتيجية الفلسطينية الشاملة إبان المرحلة المقبلة.

وهكذا فإن زيارة مشعل لغزة ولقاءاته المختلفة وخطاباته الشاملة وتصريحاته العميقة استهدفت في جزء محوري منها تذليل كافة العوائق والصعاب أمام مسيرة المصالحة الفلسطينية، إذ أُتيح لمشعل مخاطبة قيادات وكوادر وقاعدة حماس وجها لوجه لأول مرة، وملامسة عقولهم وقلوبهم بغية توفير المناخ الملائم لاستيعاب المتغيرات التي تحملها المصالحة عقب سني الانقسام العجاف التي أفسدت الحياة الوطنية، وأحدثت شرخا نفسيا واجتماعيا هائلا داخل المجتمع الفلسطيني ككل.

وكما قطعت جهيزة قول كل خطيب، فإن خطابات وتصريحات مشعل حول أولوية تطبيق المصالحة قطعت كل قول فلسطيني، إذ تواطأت المكونات السياسية والمجتمعية الفلسطينية على الإشادة بالرؤية العميقة والطرح الشفاف الذي عرضه مشعل بخصوص المصالحة، ولم تجد حركة فتح سوى دعم هذه الرؤية بدون أي ملاحظات أو تحفظات.

لقد رسم مشعل أمام القوى والفصائل الفلسطينية خارطة طريق حقيقية حول آليات إنفاذ المصالحة واستعادة التوافق الداخلي، بدءا من ترطيب الأجواء ونبذ لغة التدابر والخصام، مرورا بالتذكير بثقافة التسامح والتفاهم والتعاون والتكافل التي غابت عن الساحة الفلسطينية الداخلية طيلة حقبة الانقسام الماضية، وصولا إلى تقعيد القواعد وتأصيل الأصول الضرورية لإنجاز مسيرة المصالحة على أسس سليمة تتجاوز مطبات الماضي وتتلافى أخطاء وثغرات الاتفاقات السابقة.

ولا ريب أن تشدد مشعل في طرح مفهوم الشراكة الوطنية كشرط لانتشال الفلسطينيين من مأزقهم الداخلي الكبير، وتأكيده على ضرورة التعاون الفصائلي المشترك أيا كانت الأوزان التمثيلية والثقل السياسي للفصائل، وتشبيهه حركتي حماس وفتح بجناحي الوطن الذي لا يستطيع أن يحلق بأحدهما بمعزل عن الآخر، يعكس استفادة كبرى من التجارب الماضية ووعيا رفيعا بمتطلبات المرحلة والاستحقاقات المترتبة على إنجاز مسيرة التحرر الوطني.

لقد أعادت الكلمات الثاقبة التي أطلقها مشعل بخصوص التحرير قبل الدولة سريان الروح في جسد المشروع الوطني من جديد، وصححت مفاهيميا الخطأ الاستراتيجي الكبير الذي تغافل عن تأسيس السلطة تحت الاحتلال قبل إنجاز مشروع التحرير.

ولئن بدا تصحيح مشعل مفاهيميا لم يتجاوز إطاره النظري في نظر البعض إلا أن مشعل اتخذ خطوة عملية هامة اجترت استدراكا هاما ينحاز إلى سياسة تقليل الخسائر الوطنية إلى حدها الأدنى عبر إعادة صياغة وظائف السلطة بعيدا عن الأمن والسياسة الخادمة لمصالح الاحتلال لجهة خدمة مصالح شعبنا وقضيته الوطنية.

وبهذا فإن مشعل ابتغى إحداث مقاربة جديدة تحاول استدراك الأخطاء الكارثية التي ترتبت على واقع السلطة الراهن عبر محاولة نزع المهام الوظيفية للسلطة عن سياقها السياسي والأمني الذي يصب أساسا في خدمة الاحتلال وقصرها على الجوانب الخدمية وإدارة الشؤون الحياتية للفلسطينيين، وإعادة بناء منظمة التحرير كي تصبح ممثلا حقيقيا لجميع الفلسطينيين.

إن التحدي الأساسي الذي يخوضه مشعل هذه الأيام يكمن في السعي المتدرج لإعادة صوغ الخيارات السياسية والوطنية للمجموع الفلسطيني السلطوي والفصائلي من جديد على أسس صحيحة، بما يجعلها أكثر تلاحما مع الحقوق والثوابت الوطنية، بدءا من تطهير السلطة من رجس الوظيفة الأمنية التي لوثتها منذ نشأتها وحتى اليوم، وليس انتهاء بحمل السلطة على الاستقامة في المواقف والسياسات التي تتساوق مع القيم والحقوق الوطنية.

باختصار.. فإن مشعل يعيد الاعتبار للبرنامج الوطني"النظيف"، ويقود الفلسطينيين إلى استراتيجية شاملة تليق بتضحياتهم الهائلة وموقعهم المركزي في قلب الأمة والعالم.

البث المباشر