يعي الأمريكيون والأوروبيون أنه في أعقاب القرار (الإسرائيلي) بانجاز مشروع "E1" الاستيطاني، الذي يفصل شمال الضفة الغربية عن جنوبها، سيكون من الصعوبة بمكان تسويق حل "الدولتين"، لأن هذا المشروع يضمن فقط تكريس وتوسع دولة واحدة وهي (إسرائيل).
ويفقد القرار (الإسرائيلي) الأمريكيين والأوروبيين القدرة على المناورة في مواجهة الفلسطينيين، عبر مواصلة طرح شروط اللجنة الرباعية، التي تضفي "الشرعية" فقط على الأطراف الفلسطينية التي تعترف بوجود (إسرائيل) وتنبذ المقاومة بوصفها "إرهاباً "، في حين تعد الأطراف التي ترفض هذه الشروط منظمات إرهابية لا مجال للاعتراف بها والتحاور معها.
وبالمناسبة على أساس هذه الشروط، أيدت أوروبا وأمريكا قرار (إسرائيل) فرض الحصار على قطاع غزة، وبسبب الخلاف الفلسطيني حولها تفجر الانقسام الداخلي.
إن الأمريكيين والأوروبيين الذين غذوا الانقسام الفلسطيني، وأجهضوا محاولات التقارب بين حركتي فتح وحماس، يعون الآن أن القرار (الإسرائيلي) ينسف مسوغات الانقسام. فإذا كانت (إسرائيل)، بعد 18 عاماً من المفاوضات تقوض مقومات الدولة الفلسطينية، فلم يعد ثمة مبرر لتواصل الخلاف بين القوى الفلسطينية بشأن مشاريع التسوية المتداولة.
ومن نافلة القول أن القرار (الإسرائيلي) ينسف المسوغات الأخلاقية والسياسية لتأييد أوروبا وأمريكا مواصلة فرض الحصار على غزة. إن الأمريكيين والأوروبيين الذين يدركون جيداً تداعيات القرار (الإسرائيلي) ردوا عبر خطوات دبلوماسية رمزية، لم تؤثر على تصميم الحكومة (الإسرائيلية) على وضع قرارها موضع التنفيذ.
وإن لم يكن واردا في الحسبان أن يقدم الأمريكيون على خطوات جدية لإرغام (تل أبيب) على التراجع عن قرارها؛ إلا أن الأوروبيين لديهم أوراق مؤثرة جداً، بإمكانهم توظيفها في الضغط على (إسرائيل). فيكفي أن نعلم أن بريطانيا هي ثاني أكبر شريك تجاري لـ(إسرائيل)، وأن حجم الواردات البريطانية من (إسرائيل) تقدر بستة مليارات دولار سنوياً. ومن الواضح أن مجرد التلويح بهذه الورقة ستجعل (الإسرائيليين) يفكرون مجدداً في قرارهم. لكن البريطانيين والأوروبيين بشكل عام معنيون بدفع ضريبة كلامية والإقدام على خطوات رمزية ضعيفة التأثير للاحتجاج على القرار (الإسرائيلي)، وهذا يعني أن (إسرائيل) ستواصل التشبث بتطبيق قراراتها العقابية.
لم يكن من المستهجن أن تعترض المؤسسة الأمنية (الإسرائيلية) على قرارات نتنياهو - ليبرمان العقابية ضد السلطة؛ لا سيما وأنها اشتملت أيضاً على تجميد تحويل عوائد الضرائب التي تتقاضاها (إسرائيل) على البضائع التي يتم استيرادها للسلطة الفلسطينية؛ عبر الموانئ (الإسرائيلية)، وهي العوائد التي تسهم في تمكين السلطة من دفع رواتب الموظفين في دوائرها المختلفة.
فبخلاف النخب السياسية الحاكمة التي تحركها الدوافع الانتخابية، فإن المؤسسة الأمنية (الإسرائيلية) تعي أهمية الحفاظ على ماء وجه قيادة السلطة الفلسطينية؛ وعدم تقديم مزيد من الدلائل للفلسطينيين على بؤس الرهان على البرنامج السياسي للرئيس الفلسطيني محمود عباس.
ويعي جنرالات الجيش والمخابرات (الإسرائيلية) الدور الأمني الكبير الذي تقوم به أجهزة السلطة في الحفاظ على الأمن (الإسرائيلي)؛ عبر التعاون الوثيق مع الأجهزة الأمنية (الإسرائيلية) على كل المستويات؛ وهو التعاون الذي أدى إلى تغيير البيئة الأمنية في الضفة الغربية بشكل جذري.
وقد قدم يورام كوهين رئيس جهاز المخابرات الداخلية (الإسرائيلية)" الشاباك" مثالاً يعكس مظاهر هذا التغيير، عندما قال أنه لم يعد هناك فلسطيني واحد في الضفة الغربية على قائمة المطلوبين في الضفة الغربية، وذلك بفعل التعاون الأمني الذي تبديه أجهزة السلطة الفلسطينية.
وقد أبلغ وزير الحرب (الإسرائيلي) إيهود براك المشاركين في مؤتمر" هرتسليا" الأخير أنه حتى قادة المستوطنين في الضفة الغربية يدينون للأجهزة الأمنية التابعة للسلطة بالفضل في تحسين ظروفهم الأمنية بشكل غير مسبوق.
لقد كانت خيبة قادة الأجهزة الأمنية الصهيونية كبيرة عندما لم ينجحوا في ثني القيادة السياسية عن اتخاذ سلسلة القرارات الأخيرة؛ لأنهم يعون أن تهاوي آمال الفلسطينيين في أن تسفر عملية التسوية عن تحقيق أي انجاز وطني لهم، يعني اندلاع انتفاضة ثالثة، تفجر البيئة الأمنية ليس فقط في الضفة الغربية، بل في (إسرائيل) ذاتها، علاوة على أن هذا التطور سيكون مرتبط بالضرورة بإنهاء دور قيادة منظمة التحرير الحالية، ويضفي مزيد من الصدقية على خطاب القوى التي تتبنى خيار المقاومة.
ما تقدم يدلل على وجاهة المطالب التي يقدمها الكل الوطني لرئيس السلطة بضرورة إيقاف كل أشكال التعاون الأمني وتبادل المعلومات مع الاحتلال، فهذا التعاون وصمة عار في جبين كل من يتورط فيه، وعلى رأسهم عباس نفسه.
فهل يعقل أن يبدي عباس اعتراضه على المشاريع الاستيطانية، في حين يسمح بتوفير البيئة الأمنية التي تساعد على تعاظم المشروع الاستيطاني، عبر التعاون الأمني الهادف لضرب المقاومة.