ما يحدث في مصر اليوم مؤسف، وبائس، ومخيف، بكل المقاييس. في مصر انكشف المستور اليوم بعد طول خداع وتضليل، فما كنا نستحثّه سابقا من نقاط توافق ومشاريع التقاء بين الإسلاميين والعلمانيين لخدمة قضايا الأمة وترشيد حاضرها ورفعة مستقبلها أضحى اليوم سرابا في سراب.
هناك متطرفون إسلاميون في مصر وعلى امتداد المعمورة. هذه حقيقة لا ريب فيها. لكن الحقيقة الأكثر جلاء وسفورا أن المتطرفين الإسلاميين يجدون من الوسط الإسلامي المعتدل من يتصدى لهم ويحرص على إنكار شططهم وتقويم اعوجاجهم فيما لا يجد المتطرفون العلمانيون من يتصدى لغلوائهم ويجاهر بالوقوف في وجه انجرافهم الخطير نحو تدمير معايير السياسة وقيم المجتمع.
التشخيص السليم لمسارات الأحداث التي تعصف بالوضع المصري الداخلي يظهر نتائج مفجعة حول ما آلت إليه النخبة العلمانية في مصر بشكل خاص، والمنطقة العربية عموما، وطبيعة تنظيراتها الفكرية وممارساتها السياسية وسلوكها الاجتماعي الذي يجنح إلى التطرف الخالص ويستخف بالتوافق الوطني ويعتمد لغة الخصام العالي والإقصاء التام.
العلمانيون ليسوا كلهم على قلب رجل واحد، فهم طائفة تتنازعها الميول الشخصية والأهواء الحزبية، لكنهم يشتركون جميعا في كره الإسلاميين والمشروع الإسلامي، وقليلا ما تجد منهم من يستعد للحوار وينشد التوافق والالتقاء على برنامج القواسم المشتركة مع الخصوم السياسيين والفكريين.
كثير من العلمانيين ممن كنا نعتقد أنهم عقلاء انكشفت اليوم سوءاتهم وبان عوارهم وتجلت عنصريتهم المقيتة التي ترغب في قهر الأمة وشعوبها على أفكارهم وخياراتهم الخاصة، وتحييد الإسلاميين عن مشهد الحكم بقوة العربدة ووسائل القهر والإرغام المختلفة، سياسيا وقانونيا وقضائيا.
هؤلاء العلمانيون يتشكلون من مزيج غير متجانس من اليساريين والليبراليين والقوميين الذين هالهم وصول الإخوان المسلمين إلى سدة الحكم في مصر وبعض الدول العربية، فارتعدت فرائصهم وانقلبوا على كل الشعارات الرنانة والقيم الجميلة التي أصمّوا أسماعنا بها حينا من الدهر، وانخرطوا –بشكل غريب- في معركة الوجود أو اللاوجود، أو معركة نكون أو لا نكون!
المعركة في مصر بين الإسلاميين والعلمانيين سياسية لا ريب، لكن أرضيتها فكرية كاملة، ولو أنها كانت غير ذلك لارتضى الساسة العلمانيون قواعد العمل السياسي، وانحازت النخبة العلمانية لحكم الديمقراطية ونتائج صناديق الاقتراع، وعملت وفق الأصول السياسية والقيمية والديمقراطية التي تملي على المعارضة التنافس بشرف بعيدا عن استحضار معاني الإقصاء والانقلاب.
كان الإعلان الدستوري حجتهم في البداية، ولما تم إلغاؤه بمقتضى الحوار السياسي والوطني الذي رفضوا المشاركة فيه انتقلت حجتهم إلى الدستور، ولما رأوا أن الاستفتاء على الدستور واقع لا محالة حرض جزء منهم على المقاطعة وجزء آخر على التصويت بـ "لا"، وعندما رأوا بوادر انهزامهم بفعل الإرادة المصرية الشعبية في المرحلة الأولى من الاستفتاء أعلنوا رفضهم للنتائج، وعينهم على إفشال مرسي وإحباط تجربة الإخوان.
الساسة والنخب العلمانية لا ترى في مصر سوى مزرعة لأهوائها وذواتها ومصالحها، ولا ترى في الشعب المصري سوى أداة لتجسيد طموحاتها المريضة، وجسرا للعبور نحو المجد الشخصي والحزبي الزائف القائم على أطلال الأخلاق والديمقراطية.
مشهد العلاقة بين الإسلاميين والعلمانيين يبدو اليوم أكثر تأزما من أي وقت مضى، وإشكاليته الكبرى ليست في موقف الإسلاميين بقدر ما تكمن في العقلية الإقصائية والتفكير العلماني المتطرف الذي يرفض الحوار والتوافق الوطني المشترك، ولا يجد غضاضة في التحالف مع الفلول والشيطان في سبيل تحقيق أهدافه المريضة، ولو على حساب مصر الدور والقيم والحضارة، مصر الحاضر والمستقبل، مصر العروبة والإسلام.