لا مشكلة لدينا مع العلمانية المتعقّلة التي تحترم نصوص ومرجعيات الدين، وتقبل الاحتكام إلى القيم الأخلاقية والدستورية، وتنزل عند إرادة الشعب والجماهير.
أما العلمانية المتطرفة التي تلقي بأفظع ما في جعبتها من سوء اليوم في مصر وبعض الدول العربية فهي محط نبذ وإدانة، ويصعب أن نلتقي معها على قواسم مشتركة أو أرضية سواء.
لا مسوغات للتطرف الإسلامي، ولا للتطرف العلماني، وها هنا فإن أحداث مصر الأخيرة قدمت لنا نموذجا خطيرا حول خطورة التطرف العلماني الذي يجرف القيم والمفاهيم والسياسة والأخلاق، ولا يعترف بلغة التفاهم والحوار أو يعرف القواسم المشتركة ونقاط التوافق والالتقاء.
صُدمنا في الآونة الأخيرة بمقاربات غريبة من لدن سياسيين وكتاب ومفكرين علمانيين تشرّع الانقلاب على الشرعية الدستورية في مصر وغيرها، وتنفث آراءً إقصائية للآخر الإسلامي، وتضع المشروع الإسلامي في موقع السخرية والاستهزاء، ولا تتورع عن الكذب والخداع والتضليل وقلب الحقائق من أجل تشويه الإسلاميين وإحباط تجربتهم الجديدة في الحكم، وهؤلاء السياسيون والكتاب والمفكرون كانوا حتى وقت قريب من أشد الدعاة إلى احترام القيم الديمقراطية وإرادة الشعوب، وأكثر الناس تنظيرا لمبادئ الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.
ما الذي جرى لهؤلاء؟! وما الذي جعل رؤوسهم إلى أسفل وأقدامهم إلى أعلى ما بين يوم وليلة؟! وهل يمكن للمرء أن ينقلب على الشعارات التي نذر حياته من أجلها بجرة قلم؟!
بالطبع فإن لدى جهينة الخبر اليقين، فهؤلاء لم يؤمنوا يوما بالشعارات الكبرى التي نظّروا لها بكل صخب، أو لربما هم يؤمنون بها ما دامت تحقق مصالحهم الخاصة وترضي غرورهم وأهواءهم، فلما تضادّت هذه الشعارات بما حملته من استحقاقات صعود الآخر الإسلامي مع مصالحهم ألقوا بها جانبا، فانكشفت ظهورهم وباتوا عرايا القيم والأخلاق أمام الجماهير.
قد تكون هنالك أصوات علمانية عاقلة. ربما، لكننا لم نسمعها حتى اللحظة، ما يعني أن هؤلاء قلة قليلة أضعف ما تكون أثرا وتأثيرا أو أن العلمانية تخلو من العقلاء على الإطلاق.
شاءت النخبة العلمانية أم أبت، فإن العلمانية تلفظ أنفاسها في عموم المنطقة العربية والإسلامية، ولم تعد تقوى على ملامسة وعي جماهير الأمة، ولم تعد في موقع اهتمام وتفاعل الشعوب العربية والإسلامية التي باتت اليوم أكثر إدراكا وتمييزا للغث من السمين، والحق من الباطل، ولم تعد تنخدع بزخرف القول ومعسول الكلام.
لسنا من أنصار إقصاء الآخر مهما فعل أو أخطأ، فالقانون هو الحكم والفيصل بين جميع المواطنين بدون استثناء، ومن واجبنا أن نتعامل مع الآخر المخالف بروح الإسلام السمحة التي تستوعب الجميع وتتعايش مع جميع الأفكار والأطياف أيا كانت بعيدا عن النعرات والعصبيات.
الاستيعاب أو الاحتواء الفكري والسياسي الذي يفتح باب الحوار ولا يغلقه، من شأنه أن ينزع جانبا من فتيل الأزمة الراهنة مع العلمانيين، وأن يعزل غلاتهم ومتطرفيهم الذين يعملون وفق سياسة الأرض المحروقة، ويستهدفون ضرب وحدة الأمة ونسيجها المجتمعي.