في غزة.. لا تقتصر إدارة المنزل وتلبيه احتياجاته على الأب فقط أو الأم مثلاً، إنما من الممكن أن يمتد الأمر –وليس غريباً- ليطال أطفالاً لم تتجاوز أعمارهم أحد عشر ربيعاً.
الطفل "أحمد الجرجير" (11 عاماً)، واحدٌ من أولئك الذين كبّرتهم "مرارة الأيام" قبل أوانهم، وأعطتهم عمراً يفوق حجمهم، وجعلت "رب الأسرة" لقباً يلازم حياته قبل أن يرى منها شيئاً.
من إحدى مفترقات غزة يأخذ أحمد مطرحاً له متعدد الاحتياجات، للأكل والشرب تارة والنوم والدراسة تارة أخرى، والأهم أن الوقت الأكبر في المكان يستغله في جمع "الشواكل".
راجياً باكياً معترضاً الطريق بنبرة صوت دافئة غلبتها برودة الطقس، وبنوع من الخجل أخفى وراءه عزّة نفس، تلاشت بفعل قسوة الحياة وجوع أخوته، قال أحمد "أعطيني شيكل".
وتابع مبرراً رجاءه: "بدّي أشتري كيس طحين عشان أطعمي أمي وأخوتي اللي راح يموتوا من الجوع، لأنه فش اشي يسد جوعهم"، هكذا كانت الاجابة بعد سؤال: "لماذا الشيكل وبماذا سيفيدك؟!".
مشوار جمع "الشواكل" للظفر بـ "كيس طحين" -على الرغم من صعوبته- لم يضعف عزيمة أحمد الذي خرج في برد الشتاء القارص، تاركاً واجباته المدرسية على أمل العودة مساءً لإتمامها بعد أن يجمع قسطاً لقاء إسكات جوع إخوته.
توفي والد أحمد خلال العدوان (الاسرائيلي) على غزة عام 2008-2009، تاركاً خلفه امرأة لتربي وتعيل خمسة أولاد، اثنين منهم ذكور والباقي إناث، الأكبر سناً بينهم صاحب الأحد عشر عاماً.
"أبويا استشهد في حرب 2008، وتركني وأخوتي الأربعة وأمي، ما إلنا إلا الله هو أعلم بحالنا"، قالها أحمد يجهش باكياً، ولخصت الدموع المتساقطة من مقلتيه اشتياق الطفل لوالده.
وشهدت غزة عدواناً (اسرائيلياً) في السابع والعشرين من ديسمبر/كانون الأول 2008، استمرت 23 يوماً، راح ضحيتها أكثر من 1200 شهيد-والد أحمد من ضمنهم- ناهيك عن إصابة الآلاف.
بعد يوم دراسي شاق، يرجع الطفل المثابر إلى منزله يلقي حقيبته المثقلة بالكتب، ولا داعي –وفق رأيه- لتناول وجبة غداء تعينه على رحلة المعاناة اليومية المرهونة بـ "الشيكل" للحصول على "كيس طحين".
وفور عودته للمنزل يباشر أحمد بمراجعة دروسه التي أثبت جدارته فيها وتقدمه، قبل أن يخلد إلى نومه الذي يبدأ بعملية حسابية معقدة تكون محور اهتمامه، تتمثل في حساب الأيام التي يحتاجها لجمع المال لقاء تحقيق مبتغاه.
ولو ذهبنا في "حِسبة سريعة" للحصول على "كيس طحين"، وفق خطة أحمد البريئة، نجد أننا بحاجة إلى سبعة أيام من رحلة المعاناة، بمعدل 15 شيكل خلال اليوم الواحد، لشراء المعلوم البالغ سعره 150 شيكل.
ومن يعتقد أن الطفل المثابر ضعيف التحصيل في دراسته؛ لأن جمع المال لإطعام أسرته يحول دون اجتهاده، فالأمر ليس كذلك مطلقاً، فقد أقسم أحمد بمحض إرادته أن معدله الدراسي وصل 80% في العام الماضي.
ووفقاً للمادة المادة (28) من اتفاقية حقوق الطفل التي تنص على حق الطفل في التعليم، وجعل المرحلة الابتدائية منه إلزامية ومتاحة مجاناً للجميع، فيما تنص المادة (6) على أن لكل طفل حقاً أصيلاً في الحياة.