لم يكن عنوان مقالي صدر بيت شعرِ غزلٍ أو قصيدة نفاقٍ بين يدي استعطاء أولي الأمر أو حتى قصيدة من قصائد محمود سامي البارودي لاستعطاف أهل الكرم، ولكنَّها زيارة ساقني فيها موظف الشؤون الاجتماعية لبيت في حواري غزة ربما يسميه أهل الفقه بيتاً اصطلاحاً وربما يختلف معهم أهل اللغة على اعتبار أن البيت في اللغة له وظيفة يعرّفها الشاعر زهير بن أبي سُلمى في معلقته وخروجاً من الجدل وتفويتاً لفرصة أن يصبح الفرق بين البيت والبيت مادة لرسالة دكتوراه تمكث ثلاث سنوات وننسى أطفال قصتنا أمواتاً مع أحجارهم سمَّته دموع الكاميرا "ليس بيتاً"، تلك قصتنا مع كومة من البشر وكومة من الحجارة وبقايا ملابس يعيشون في الـ"ليس بيتاً" في ذكرى دخول ميلاد المسيح عليه السلام الصف السابع بعد الألفين كما يقول الشاعر تميم البرغوثي وفي ذكرى اعلان انتهاء الحصار على غزة ودخول الإسمنت وأزياء السهرة التركية، لتبقى تلك الكومة من البشر والحجارة وأخواتها من الأكوام كما تقول وزارة الشؤون الاجتماعية شواهد الحصار وكأنهم يتضامنون مع الأسرى من قبل أن يولدوا أو كأن سامر العيساوي معزولاً بين ظهرانيهم أو كأن الإسمنت ومواد البناء قد حرمت عليهم إلا ما اختلط منها بعظمهم أو ما شيدت فيه قبورهم، أو ربما ما يلزم له حفلات افتتاح وقص شريط، ولم تستطع الكاميرا رغم دموعها أن تخفي صور أطفالٍ لم تذق عظام سيقانهم طعم "البلاطين" كما طعم شحم العظام وكأن لسان حال صورهم يُنظر إليه عبر أجهزة الأشعة السينية المعطلة في مستشفى الشفاء كما لم تستطع أن تخفي الكاميرا تسجيلات قرقرة بطون خاوية لا تلوي على فراخ أو كنافة غزاوية كالتي تتمتع بها سلال قمامة فنادق زوار قوافل الحصار.
والغريب أن الكاميرا التقطت لقطة اضطرتنا جميعاً للخروج من الـ"ليس بيتاً" بعد أن فاض صاحب البيت علينا بكرمه حين طلب من إحدى بناته أن تشتري لنا مشروباً كرم ضيافة والأغرب أن الرجل عاتبنا بأننا لسنا عند رجلٍ "شحاد" حتى نرفض الضيافة. حملتنا الكاميرا بعيداً وبقيت عيوننا لا تفارق تلك الأكوام من البشر المختلطة بحجارة ربما كانت في يوم الأيام من بقايا حجارة الانتفاضة الأولى بعد أن تنحَّت عن دورها لصالح صواريخ القسام التي وصلت تل أبيب في الوقت الذي لم يصل فيه قوت يومٍ لأطفال ظنوه يوماً زائراً لا يأتي إلا مرة في العمر قبل الموت أو من طعام أهل الجنة "ولحم طيرٍ مما يشتهون".