أنهى محمد دراسته الثانوية، وكان الحلم يراوده بالهجرة بعيداً حيث ما لا عين رأت –وفق اعتقاده-، قدم طلباً إلى مؤسسات مانحة، حتى وصله القبول من جامعة في مدينة كازخستان، سافر وتعلم وقضى أحد عشر عاماً، وعاد حيث كان.. إلى غزة.
وعاد محمد حاملاً بجعبته أفكاراً موشحة بالسواد، ونقداً لاذعاً لكل كبيرة وصغيرة يراها، ويحاول جاهداً العودة إلى بلاد الغربة، حيث ملذات الحياة واغراءاتها، إلا أن عراكه مستمر بين عقله وضميره.
"أنهيت دراسة الدكتوراه بتخصص الهندسة المدنية في كازخستان، ومنذ ما يقارب العام وأنا بغزة، ولم أجد عملا يناسب تخصصي"، كلمات قالها محمد أبو صفية (32عاماً)، متمنياً أن يجد عملاً ليخدم بلده، ويركل كل فكرة توسوسه للاغتراب.
تزوج الدكتور محمد، وما زال يمد يده لأهله طالباً قوت يومه، ومع كل مرةٍ يجد نفسه "متسولاً" أمام عتبات أسرته، ويتابع " أمنيتي أن أكمل شريط أحلامي الذي رسمته في مخيلتي، وأجد عملاً يناسب تخصصي داخل بلدي".
وعن أجواء غزة وأصدقائه الذين افتقدهم بغربة استمرت عقد ونيف من الزمان، يؤكد أن عودته لغزة، كانت بعد شوقٍ لاستنشاق ترابها، ورؤية الوالدين والأصدقاء.
كحال سابقه
وحالُ عماد مصلح (23عاماً) لا يختلف كثيراً عن سابقه د. محمد، حيث هاجر للنرويج بعد إلحاحٍ من والده الذي يقيم في تلك البلاد، وتهديده بقطع المعونة والمصاريف عن والدته، حتى أجبر على السفر رغماً عن أنفه.
كان اجتياح لشمال قطاع غزة، عام 2004، تلقى عماد على أثره شظية في الرأس، وكانت حجة والده " أن سافر لإجراء العملية"، حتى أنهى العلاج، وأكمل والده -المتزوج على أم عماد فتاة نرويجية-، المسلسل قائلا " ابقى بجواري ولا تعود لغزة، وإلا حرمت والدتك وأخواتك من المال".
خطط الشاب للعودة إلى غزة كثيراً، وجمع قوت يومه ومصاريفه التي يحصل عليها من والده، حتى حالفه الحظ العام المنصرم ليزور غزة، واضعاً في حسبانه الاستقرار فيها، متخلياً عن معيشة الغرب.
وما أن وصل عماد لغزة حتى بدأت ألسنة اللهب من حوله تعاتبه "عود إلى حيث كنت"، معتقدين أن الحياة في الغرب لوحة يرسم فيها كلُ شخصٍ منهم حياته كما يشاء.
البعد جفا
يقول عماد وحشرجات صوته تهتز من خلال الحديث معه عبر برنامج "سكايب"، "عشت مع والدي في نفس البيت، وكنت غريباً وسطهم، ولم أشعر براحة القلب والضمير إلا على أرض غزة".
"استمرت اقامتي بضعة أشهر، حتى وصلني اتصال من والدي، أن ارجع وإلا ..، فقررت أن أعمل وأبقى في بلادي ولا أعود للغربة ثانية"، يتابع عماد، "طرقت الأبواب ووجدتها مسدودة، ولكي لا أعود لبلاد الغربة، صرت أفكر ببيع ترمس وبراد على شاطئ البحر".
وبعد انسداد الأبواب أمامه، اتخذ عماد قراره الأصعب، وقرر العودة إلى الغربة، معلقاً "تمنيت لو بقيت بجوار والدتي وأجد عملاً في غزة يجعلني أأسس لحياتي من جديد، ولكن للأسف..".
أنهى عماد حديثه بتنهيدة قائلا: "والله نار بلادنا ولا جنة عدن، والواحد بلده أولى فيه من الغريب".
توعية وتوجيه
الدكتور وليد شبير رئيس قسم الخدمة الاجتماعية في الجامعة الإسلامية بغزة، يحذر من تزايد أعداد المغتربين إلى الخارج، ومغادرة العقول لبلادها، موجهاً صوته قائلاً لهم "الوطن بحاجة لكم".
وقال شبير "الذين يرغبون بالدراسة في الخارج لا بد أن يؤهلوا ويوجهوا من قبل الأهل والمختصين والخبراء، حتى يستطيعوا العيش في الخارج دون أن تحيط بهم الأفكار الملوثة".
وأشار إلى أن أهم الأسباب التي تواجه العائدون من الهجرة، داخل وطنهم، أنهم لا يجدون عملاً مناسباً لهم، فيبدأون التفكير بالعودة، ويفضلونها على التواجد داخل البلاد، ومواصلة عملهم بالخارج.
ويوضح شبير تعقيبا على ما يواجهه الشاب الغزي تجاه قضايا الهجرة، أن من يفكر بالسفر، سيجد جيلا جديداً، وأفكاراً حديثة، لا تتناسب مع وضعه، ولا يستطيع أن يتكيف مع هذا الوضع الاجتماعي الموجود داخل المجتمع بعد عودته له.
وأكد أن هذه الفئة يستطيع الباحثون والمختصون أن يؤهلوهم للبقاء في المجتمع، وتغيير النظرة المكتسبة من الخارج، في حال كانت لديهم رغبة أكيدة بالإقامة في الوطن.
ويبقى الأمل يلف الكثير من الغزيين، منتظرين رزقهم الذي كتبه الله لهم في بلادهم، مستبشـرين أن يكون الغد أجمل، وحضن الوطن أدفى وأكبر.