من أروع ما قرأت تلك الدرر البهية والنفائس الغالية التي نثرها الإمام الشهيد حسن البنا على شكل كلمات قليلة العدد، عميقة الأثر والدلالة والمضمون، فيما يخص علاقة الدعوة الإسلامية بالناس والمجتمع.
كلمات الإمام البنا رائعة، وكلّ كلامه رائع، وفيها يعلمنا درسا عميقا في أصول وسبل الدعوة، ويرسم لنا خارطة طريق حول كيفية احترام الناس والتعامل مع المجتمع، قائلا: "إن الناس قد بنوا لهم أكواخاً بالية من عقائدهم.. فلا تهدموا عليهم أكواخهم فيتنكرون للحق، ولكن ابنوا لهم قصراً من العقيدة السمحة.. فيهدمون أكواخهم بأيديهم ويدخلون القصر".
كلمات الإمام البنا تشكل دستورا حقيقيا للدعوة الإسلامية المعاصرة وتطبيقاتها الواقعية، وردا مناسبا على المتنطعين ودعاة التشدد والتطرف الذين انحرفوا عن جادة الوسطية الدينية واستمرؤا الخروج على التقاليد الدعوية التي أرساها معلمونا الأوائل، وسوّل لهم تفكيرهم القاصر اقتحام ساحة المجتمع دون هدى راشد أو كتاب منير.
لا تصدر الأخطاء إلا عن جاهل أو قليل وعي، أما صاحب البضاعة الدعوية السليمة والزاد الفكري العميق فيتمهل كل التمهل في طرق أبواب المجتمع، ويلتمس كل سبل الحكمة والرحمة والتفاهم والموعظة الحسنة في التعامل مع الناس، اقتداء بسنة خير الخلق صلى الله عليه وسلم، وامتثالا للتجارب الإسلامية الحديثة التي وعت أبلغ الدروس والعبر، وأدركت أن تقصير الطرق لبلوغ الأهداف الإسلامية النبيلة يكمن في فهم تضاريس الناس والمجتمع، وانتقاء الأدوات الصحيحة والوسائل المناسبة للتعامل معهم وتغيير قناعاتهم وسلوكياتهم، فكريا وسياسيا.
بين يدي التعاليم الراشدة والدعوة الحقة والقيم الناصعة التي نحملها للناس يبدو الفرق واضحا بين السلوك الدعوي الذي ينحاز إلى التبشير بالفكرة والمبدأ على أساس القاعدة الذهبية التي أرساها الإمام البنا، وبين السلوك المنفّر الذي يعتقد أن طهارة الفكرة ونقاء المبدأ يجيز له قهر المجتمع عليها ويمنحه حق فرضها القسري على شرائحه المختلفة دون إعمال آليات الحكمة والإقناع وإطلاق يد التدرج في البناء والتغيير.
وما يؤسف له أن البعض من أبناء الدعوة الإسلامية الذين اعتمدوا في تحصيل بضاعتهم الدعوية وزادهم الفكري على التلقين دون التمحيص يعتقدون أن فرض تطبيق الشريعة الإسلامية يشكل الحل الأمثل والرد الأجدى على مشكلات وتحديات الأوضاع الراهنة التي تعيشها الأمة وشعوبها المكلومة.
لا يدرك هؤلاء أن الشريعة الإسلامية ليست مجرد تطبيق حدود وعقوبات كما يتصورون، وأن العقوبات المنصوص عليها في الشريعة تشكل جزءا بسيطا وتشغل حيزا لا يكاد يذكر إلى جوار القيم الكبرى والمبادئ العظمى والتعاليم السامية التي تحفل وتنادي بها، وأن نظام الحدود والعقوبات في الشريعة له اشتراطاته الصارمة ومحدداته الدقيقة التي تقع الحرية والكفاية الاقتصادية الشخصية ضمن أبرز دوائرها وفقا لفتاوى جمهور الفقهاء المعاصرين.
الشريعة قيم ومبادئ وتعاليم قبل أن تكون حدودا وعقوبات، وليمعن كل منا النظر في النموذج التركي الرائع الذي جسده أردوغان وإخوانه بحكمتهم الثاقبة ووعيهم العميق، فقد طبقوا مساحات واسعة من الشريعة دون صخب أو ضجيج بعيدا عن جدلية الشعار، وزرعوا العدل والحرية والكرامة والقيم الكريمة التي تشكل لبّ الإسلام في جنبات المجتمع التركي دون أن ينال منهم أو يعترض عليهم أحد.
لا يمكن للدعوة أن تسلك سبل الفرض والإكراه تحت أي صفة كانت، والقيم والمبادئ والتعاليم لا يمكن تنزيلها إلى واقع المجتمع دفعة واحدة، ولا مفر من بذل التوعية بسلوك سبل التدرج المطلوب، والتعامل مع خريطة المجتمع وشرائحه المختلفة بمنطق الرفق والحكمة والإقناع الذي نزل به القرآن وتعاليمه السامية.