في العام 1998 وفي بداية عملي الصحفي زارني في مكتب الصحيفة شاب تبدو عليه ملامح الانكسار، تتعثر خطواته كأنه عروس يوم خطبتها.
جلس امامي تتلعثم الكلمات بين شفتيه، وهو يروي قصته عندما اعتقله الاحتلال (الإسرائيلي) نهاية الانتفاضة الاولى، وقد امضى بضعة شهور تمكن الاحتلال خلالها من اسقاطه بسبب ضعف شخصيته وصغر سنه.
بعد الافراج عنه توقع ان يفلت من شرك السقوط، لكن ضابط المخابرات (الإسرائيلي) طارده باتصال هاتفي بعد نحو اسبوع من الافراج عنه، يذكره بالمهام المكلف بها، واجبره على مقابلته في احدى مستوطنات غزة سابقا، ليقدم معلومات عن المقاومين.
لم تمض شهور حتى دخلت قواتنا الوطنية، واجهزتنا الامنية الثورية، في ظل السلطة الفلسطينية وبركة اتفاق اوسلو.
كانت الآمال كبيرة على اجهزة المخابرات والاستخبارات والامن الوقائي، لخوض حرب ادمغة مع الاحتلال لوقف نزيف الكرامة الفلسطينية على ابواب غرف المخابرات (الإسرائيلية).
ولان الشاب الذي سقط لم يتوقع يوما ان يتحول الى خائن، قرر ان يرتمي في احضان جهاز المخابرات الفلسطيني مع بداية عمله في قطاع غزة.
توجه يومها الى احد الضباط واعترف أمامه بانه سقط لضعف في وحل العمالة وانه جاء ليحتمي بمخابراته الفلسطينية.
ولأن ضابط المخابرات كان يتابع مسلسل "رأفت الهجان" ومسلسل "دموع في عيون وقحه" طلب من الشاب المسكين ان يستمر في الاتصال بضابط المخابرات (الإسرائيلي) .. " يعني بده يحوله لعميل مزدوج" والشاب بالكاد يملك مقومات ان يكون مواطنا فلسطينيا.
وبدل ان يتحرر من "خازوق" المخابرات (الإسرائيلية) وجد نفسه مجبرا على تسلق "خازوق" المخابرات الفلسطينية ايضا.. واستمر في التعاون مع (الإسرائيليين) ونقل ما يجري معه "لجيمس بوند الفلسطيني"، الى ان تفاجأ بطلب من ضابط مخابراتنا بضرورة الحصول على مسدس وجهاز اتصال خلوي واموال من الضابط (الإسرائيلي).
وهكذا سلم الشاب المسكين ما يحصل عليه لضابط مخابرات الثورة مشترطا عليه ألا يخبر احدا بما يجري بينهما، لكن الضغط النفسي دفع "العميل المزدوج" للاعتراف لضابط مخابرات من نفس الجهاز بالسقوط الثاني مع المخابرات الفلسطينية.
هذه المرة كان الرجل "ابن حلال" نصحه ان يقطع كل اتصالاته مع ضابطي المخابرات الفلسطينية و(الإسرائيلية) والا ينفذ اي مهمات قذرة لهما.
صحيح .. انا كصحفي ما دوري في هذه القصة؟
الشاب بقي مطاردا بضغوط وتهديد ضابط المخابرات الفلسطيني .. "اللي استحلى اللعبة والغنائم " وجاءني المسكين يلقي همه لدى صحيفة المعارضة في ذلك الوقت.
لا يخفى عليكم كان الخيار صعبا امامي ايضا، بين مهمتي كصحفي ومواطن اضع نفسي مكان هذا الشاب المهدد من الجميع.
كان قراري بعدم التعامل مع الشكوى لان نشرها سيجعلنا جميعا عرضه للانتقام، وقد يحاسب الشاب على تهمة العمالة، والصحيفة ليس لديها دليل سوى شهادة عميل.. وانا سوف اكون متعاونا مع "المتعاون".
وهكذا خرج من عندي الشاب وليس امامه سوى الهروب.. الهروب من نفسه حتى لا تؤنبه ومن وطنه حتى لا يخونه. وانزوى في شوارع النسيان.
شاءت الاقدار ان اقابله بعد سنوات .. كان اكثر ثقة بنفسه.. لكنه بحاجة لمساعدة كي يتحول من بند البطالة الى تشغيل دائم، وعدته ان اساعد ان استطعت، كي اكفر عن عجزي السابق، لان الحكومة والسلطة والحال تغيرت، وهرب ثوار الغنائم، ولان هذا الشاب وغيره يحتاج الأمان.. الامان من الجوع والخوف.
تذكرنا تلك المقابلة القاسية التي جمعتني به قبل سنوات، قال: "اتذكر كيف جعلوني عميلا"؟!