قائمة الموقع

مقال: الخطيئة الكبرى

2013-03-28T10:43:39+02:00
الكاتب مؤمن بسيسو (أرشيف)
مؤمن بسيسو

التفجير المروّع الذي طال العلامة محمد سعيد رمضان البوطي داخل أحد مساجد دمشق آثم بكل المقاييس، ويعيد خلط الأوراق على المستويين: الثوري السوري، والعقدي الإسلامي، وسط ظروف مكفهرة تعيشها الأمة تحت نصال المخططات المعادية التي تنهش استقرارها وتطعن حاضرها ومستقبلها صباح مساء.

لا تتوفر معلومات دقيقة حول هوية الجهة التي نفذت التفجير، لكن بسط المواقف وحقائق الواقع وإعمال أدوات الربط والتحليل ترجح وقوف جهة أو مجموعة إسلامية، متشددة الفكر، متطرفة النهج والموقف، وراء التفجير، دون أن يعني ذلك استبعاد أيدي النظام من الوقوف خلف العملية، ما يضعنا مجددا في مواجهة الفكر المتطرف الذي يحاول جرّ الأمة وثوراتها إلى مربع "الحسم العقدي" الذي يبيح سفك الدماء ويبرر إزهاق الأرواح والإخراج عن الدين لمجرد الاختلاف في الرأي والموقف، أو الانحياز الحزبي والاصطفاف المذهبي، الذي يقع بعيدا عن الرؤية الأحادية ذات الطابع المنغلق التي تحاول بعض المجموعات أو الجهات التي تتدثر بالعباءة الإسلامية فرضها على ساحة الأمة وشعوبها.

إن حفظ النفس الإنسانية والتشدد البالغ في معايير إزهاقها والمساس بها يعتبر من أعظم قيم ومبادئ الإسلام، فلم يعطِ الإسلام رخصة إزهاق النفس إلا في ثلاثة مواضع كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي: النفس بالنفس، والثيّب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة. وتلك شروط دقيقة وحساسة لا يمكن إنفاذها إلا عبر حكم وليّ الأمر في ظل وجود دولة إسلامية لا تتوفر مقوماتها هذه الأيام.

بل إن الإسلام جعل قتل النفس بغير الحق من أعظم الجرائم عند الله، وعدّ هذا الصنيع كقتل الناس جميعا مصداقا لقوله تعالى: "مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً".

في قتل العلامة البوطي خطيئة كبرى لا يمكن القفز عنها أو السكوت عن الآثار والتداعيات المترتبة عليها، فقد اغتيل -غيلة وغدرا- عالم جليل ذو باع طويل ومكانة معتبرة في ساحة الفكر والدعوة الإسلامية رغم كل ما قيل عن بعض مواقفه السياسية التي اصطف من خلالها إلى جوار نظام الطاغية بشار الأسد وعصاباته الإجرامية.

إن المواقف السياسية المدانة التي تبناها البوطي في غمار الثورة السورية لا تبرر -بحال- قتله بهذه الطريقة البشعة، فلا يمكن -تحت أي قاعدة- إدراج البوطي تحت المعايير الفقهية والشروط الشرعية الموجبة للقتل، فنحن غير مأمورين أن نحارب ونقاتل الناس على أفكارهم ومعتقداتهم، فكيف لو تعلق الأمر بعالم كبير شهد له الجميع ونفع الله بعلمه الملايين من أبناء الأمة ودعاتها الميامين.

وحين يعلو صراخ البعض حول المنهج السياسي المنحرف الذي تبناه البوطي في السنتين الأخيرتين في إطار الثورة السورية المجيدة، فإن عقيدتنا الإسلامية الواضحة ومنهجنا الوسطي الأصيل وموروثنا الفقهي الغزير يملي علينا إنكار موضع الشطط والانحراف فحسب دون غمط الرجل حقه المصون وفضله الكبير، ويفرض علينا محاججته بالدليل الدامغ والبرهان المجرد بعيدا عن القوة المنكرة والعنف المرفوض.

وفوق هذا وذاك، فإننا يجب أن نضع في حسباننا احتمال تعرض الرجل إلى "إكراه" كما أفادت بعض المؤشرات من قبيل فرض الضغوط الشديدة وتوجيه التهديدات القاسية التي اشتهر بها النظام السوري الدموي، سواء باستهدافه شخصيا أو بإيذاء أسرته، كي يقول ما قال، ما قد يضعه تحت مقتضى حكم الآية الكريمة ".. إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ"، وفي قصة "إكراه" الصحابي الجليل عمار بن ياسر على نطق كلمة الكفر عبرة وملاذ لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

جمهور الأمة، قادة ومفكرين وفقهاء وحركات إسلامية وإصلاحية، باستثناء أصحاب الفكر المتطرف، يدينون اليوم جريمة قتل العلامة البوطي ويتصدون لها كونها ليست من الحق والدين في شيء، وها قد أفضى الرجل إلى الله، أحكم الحاكمين وأعدل العادلين، الذي يعلم السر وأخفى، ولا يحقّ لنا كبشر أو كدعاة أن نتغول على حق الله تعالى في محاسبة البشر والعباد، أو نتولى هتك حرماتهم وسفك دمائهم وإزهاق أرواحهم بغير حق.

إنكارنا المبدئي لبعض مواقف البوطي السياسية -على شدتها ومرارتها- شيء، ودفاعنا عن جهده الكبير وتاريخه الناصع وتراثه العلمي والدعوي المشهود وحقّه في الحياة المستمد من روح وإرادة الله شيء آخر تماما.. والله أعلم.

 

اخبار ذات صلة