اعتاد المواطن العربي من المحيط إلى الخليج أن ينام لسنوات طويلة ملء جفنيه مطمئنا تحت حماية أجهزة المخابرات الوطنية، كيف لا وهي تراقبه على مدار الساعة وتعد عليه أنفاسه؟! فاذا حدثته نفسه الأمارة بالسوء بأن يستيقظ دون إذن منها صنعت منه فيلم رعب من أفلام "الاكشن".
ولأن رجال الأمن غرسوا في ذهن الجنين العربي قبل أن يولد أنهم يعلمون عنه كل شيء، بقيت الصورة الأسطورة تلاحقنا في كل مكان، رغم الاختراقات الفادحة للأمن القومي العربي من قبل الأعداء على مدار عقود.
لكن مع مرور الوقت تهاوى جدار السرية الذي أحاطت تلك الأجهزة نفسها به؛ جراء ولع عناصرها الأمنية بممارسات "شوفيني يا بنت خال" وتقمص أدوار تمثيلية تقليدا لـ"توم كروز" في سلسلة أفلام "المهمة المستحيلة".
فلسطينيا، كان لعناصر أجهزة الأمن طقوس "ونهفات" خاصة ليتعرف الناس عليهم فيحرصون -مثلا- على تركيب زجاج "البيرسون" لسياراتهم، والسير في الشوارع على نغمة زفة العريس "درج يا غزالي"، ولولا العيب لخرج "السري للغاية" من خلف "البيرسون" ليصرخ في وجه المارة الذين لا يكترثون: "أنا رجل أمن يا بهايم".
ومن طرائف الأمن القومي التي يرويها مسافر في طريقه من القاهرة الى الإسكندرية، على متن باص وإذ بسائق الباص -عند منتصف الطريق- ينادي على الركاب، حد نازل المطار السري، حد نازل المطار السري، تعجب المسافر من هذه العبارة.. ومن المطار سري.
ومن النوادر التي تروى عن الشيخ عبد الحميد كشك يرحمه الله أنه عندما كان يؤم المصلين يقول للناس: الصف الثاني والثالث والرابع والخامس استقيموا فسألوه: والصف الأول يا مولانا؟! قال: "ﻷ دول مخبرين وأمن دولة جايين يتجسسوا علينا.. يستقيموا او ﻻ يستقيموا مش هينفعلهم صلاة".
ورغم الربيع العربي إلا أن هذا الإرث الخطير الذي تركته أجهزة الأمن في مجتمعنا الفلسطيني والعربي لا يزال بحاجة لعلاج، للتخلص من ثقافة "التجسس" بعدما جندت نصف المجتمع مخبرين ومندوبين يتجسسون على النصف الآخر. الموظف يتجسس على مديره.. والمدير على مجلس الادارة. الممرض يتجسس على الطبيب، والطبيب على المريض. الحركة تتجسس على الجبهة، والجبهة على نفسها. السائق يتجسس على الركاب، والراكب على الماشي. الزوجة تتجسس على زوجها، وزوجها على الجيران، وهكذا سلسلة لا متناهية فانهار الأمن الشخصي، وصار "الواشي زي الراشي كله عنده ماشي" و"ما ينقل أخبارك إلا من دخل دارك".
ولم يتوقف إبداع الأمن القومي عند هذا الحد بل تطور إلى درجات أعلى في الممارسات "الواطية"، فكم من مسئول أرسلوا له عصفورة "حريك"، واصطادوه بشباكها ليصبح خاتما في إصبعهم، وبات لدى الأجهزة الأمنية قسم متخصص في الإسقاط الأخلاقي، وبعض قادة الأمن تحولوا إلى "قوادين"، ولا يزال إرثهم شاهدا عليهم.
بعد ثورات الربيع العربي تناضل أجهزة الأمن العربية لترميم صورتها كي تحافظ على نفوذها؛ لذلك هناك خشية من إقدامها على خلط الأوراق في ظل لعبة الإعلام، وشغل "الجلا جلا" و"جراب الحاوي".
لهذا يحتاج الناس اليوم لأجهزة أمن تؤمنهم من الخوف، لديها شفافية بعيدا عن زجاج "البيرسون"، عقيدتها وطنية، لا بائعي معلومات .. أجهزة "لا تفتش عن المغطى ولا تغطي على المكشوف" ومن يتجاوز تحاسبه الجماهير على قاعدة المثل الشعبي: "العيون البصاصة تندق فيها رصاصة".