[ 32] كتاب الحلال والحرام
أ. يوسف علي فرحات
إن الدارس لشخصية الشيخ القرضاوي وكتبه يَخرجُ بنتيجة مفادها : أن الرجل عبارة عن أمة في رجل ومجموعة شخصيات في شخص واحد ، وهو عبارة عن كنوز من عدة ألوان 0 فإن غزارة الإنتاج وتلون العطاء ووفرة الميادين التي أطل منها الشيخ تحتاج إلى مؤسسة علمية تدرس جوانبها ، فهو عالم محقق كما وصفه الشيخ العلامة أبو الحسن الندوي ً 0 لقد بارك الله في وقت الشيخ حفظه الله حتى أخرجت له المطابع عشرات الكتب في الفقه وأصوله ، وفي الاقتصاد الإسلامي ، وفي علوم القرآن والسنة ، وفي العقيدة ، وفي تيسير فقه السلوك ، وفي الدعوة والتربية ، وفي ترشيد الصحوة الإسلامية ، وفي الشعر والأدب 0
والناظر في كتبه وبحوثه ومؤلفاته يستيقن من أنه كاتب مفكر أصيل لا يكرر نفسه ، ولا يقلد غيره ، ولا يطرق الموضوعات إلا ما يعتقد أنه يضيف فيه جديداً من تصحيح فهم ، أو تأصيل فكر ، أو توضيح غامض ، أو تفصيل مجمل ، أو رد شبهة ، أو بيان حكمة أو نحو ذلك 0
ويعتبر كتاب ( الحلال والحرام ) هو باكورة عمل الشيخ في التأليف وبهذا الكتاب دخل الشيخ عالم التأليف ، وهو كما قال : " ولكن الكتاب الذي أعتبره بداية حقيقية للتأليف، والذي دخلت به سوق الكتّاب والمؤلفين، هو كتاب "الحلال والحرام في الإسلام".
ويبرز الشيخ في هذا الكتاب قاعدة إسلامية أصيلة وهي : ( الأصل في الأشياء الحل والإباحة ) ولا حرام إلا ما ورد نص صريح من الشارع بتحريمه ، فإذا لم يكن النص صحيحاً أو لم يكن صريحاً في الدلالة على الحرمة بقي الأمر على أصل الإباحة ، ومن هنا ضاقت دائرة المحرمات في الإسلام ضيقاً شديداً واتسعت دائرة الحلال اتساعاً بالغاً ، وفي هذا ورد الحديث : " ما أحل الله في كتابه فهو حلال ، وما حرم فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عفو ، فاقبلوا من الله عافيته ، فإن الله لم يكن لينسى شيئاً ، وتلا ( وما كان ربك نسياً ) [ رواه الحاكم وصححه وأخرجه البزار ] وقد نبه الشيخ على أن أصل الإباحة لا يقتصر على الأشياء والأعيان ، بل يشمل الأفعال والتصرفات التي ليست من أمور العبادة وهي التي تسمى العادات والمعاملات ، فالأصل فيها عدم التحريم وعدم التقيُّد إلا ما حرمه الشارع وألزم به 0 ونقل الشيخ عن شيخ الإسلام ابن تيميه : " إن تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان : عبادات يصلح بها دينهم ، وعادات يحتاجون إليها في دنياهم ، فباستقراء أصول الشريعة تعلم أن العبادات التي أوجبها أو أحبها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع ، وأما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه ، والأصل فيه عدم الحظر ، فلا يحظر منه إلا ما حظره الله ، والعبادة لابد أن تكون مأموراً بها ، فما لم يثبت أنه مأمور به كيف يُحكم عليه بأنه محظور " 0
هذا وقد اشتمل الباب الأول من الكتاب على مبادئ عامة في شأن الحلال والحرام. والباب الثاني تناول الحلال والحرام في الحياة الشخصية للمسلم بما يشمل المأكل والمشرب والملبس والزينة، والمسكن والكسب. والباب الثالث تناول: الحلال والحرام في الحياة الأسرية، من الزواج وما يتعلق به، وعلاقة الآباء والأمهات بالأولاد، والعلاقة بذوي الأرحام، وما يتعلق بذلك من أمور التبني والتلقيح الصناعي وغيرها. والباب الرابع تناول: الحلال والحرام في الحياة الاجتماعية والعامة للمسلم، بما يشمل المعتقدات والتقاليد والمعاملات، واللهو والترفيه، وعلاقة المسلم بغير 0
وأصل كتاب الحلال والحرام كما يذكر قصته الشيخ القرضاوي ، تكليف من مشيخة الأزهر في عهد إمامه الأكبر الشيخ محمود شلتوت رحمه الله الذي أحال الموضوع برمته إلى الأستاذ الدكتور محمد البهي المدير العام لإدارة الثقافة الإسلامية بالأزهر ، وذلك عندما ورد إلى وزارة الخارجية المصرية من بعض سفاراتها في أوروبا وأمريكا؛ أن المسلمين في تلك البلاد يحتاجون إلى كتب علمية ميسرة معاصرة في ثلاثين موضوعا من الموضوعات حددوها، بعضها في العبادات، وبعضها في المعاملات، وبعضها في الآداب والأخلاق، وكان من هذه الموضوعات الثلاثين؛ موضوع تحت عنوان "ما يحل للمسلم وما يحرم عليه ".
هذا وقد لقي الكتاب رواجاً كبيراً في العالم الإسلامي وترجم إلى عشرات اللغات وطبع أكثر من خمسين مرة وأثنى عليه كبار علماء الأمة ، وذلك بعد أن أقرته مشيخة الأزهر 0 وقد كتب المفكر الإسلامي المعروف بالأستاذ محمد المبارك تقريراً قال فيه : " إن هذا الكتاب هو خير كتاب في موضوعه فيما أعلم " 0
كما أوصى الشيخ العلامة مصطفى الزرقا تلاميذه باقتنائه قائلاً لهم : " إن اقتناء هذا الكتاب فرض على كل أسرة مسلمة " 0 وكان من مظاهر الاحتفاء والاعتناء بهذا الكتاب أن الشيخ محمد ناصر الدين الألباني خرج أحاديثه، -وهذا لا يحدث عادة إلا للكتب التي لها قيمة علمية – في كتابه ( غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام )
كما أن الأستاذ الكبير علي الطنطاوي رحب به وزكاه، وقرر تدريسه في مادة "الثقافة الإسلامية" التي كان يدرسها في كليتي الشريعة والتربية بمكة المكرمة،
كما أرسل في حينها الأستاذ المودودي يشكر القرضاوي على الكتاب ويقول في رسالته : " إني أعتز بهذا الكتاب، وأعتبره إضافة جليلة إلى مكتبتي "
هذا وقد اهتمت في حينه جامعة البنجاب في باكستان بالكتاب اهتماماً ، حتى تناولته إحدى طالبات الدراسات العليا في دراستها للماجستير ليكون البحث المكمل للحصول على درجة الماجستير، واسمها جميلة شوكت 0
وفي سنة 1995م أصدر وزير الداخلية الفرنسي قراراً بمنع نشر الكتاب في فرنسا باللغة الفرنسية أو العربية، واعتبر الكتاب الذي نشر في الجريدة الرسمية أن تداول الكتاب من شأنه أن يتسبب في أخطار للأمن العام نظراً إلى نبرته المعادية للغرب 0 هذا وقد انتهى الأمر باعتذار وزير الداخلية، وسحب قراره، وقال: إنه خطأ إداري.
والكتاب يتبنى منهج "التيسير"، لذا فلا غرو أن يقف ضده المتشددون، حتى قال عنه من قال: هو كتاب " الحلال والحلال في الإسلام" إشارة إلى تضييق دائرة الحلال .
وقد ظهرت بعض الردود على الكتاب، منها : رد الشيخ عبد الحميد طهماز من علماء حلب، ومن تلاميذه الشيخ محمد الحامد رحمه الله 0 ومنها رد الشيخ صالح الفوزان من المملكة السعودية، المسمى "الإعلام بنقد كتاب الحلال والحرام".
والحقيقة إن هذه الردود في غالبيتها ركزت على الأمور الخلافية التي سيظل الناس يختلفون فيها إلى ما شاء الله، والتي مال فيها إلى جانب التيسير وفق المنهج الذي اختاره لنفسه ، واطمأن إلى صوابه 0
لذا فإن هذه الردود لا تقلل من شأن الكتاب ، فحسبه أنه ذاع في الأفاق ، في بلاد العرب والعجم ، وهو من أكثر التي انتشرت وطبعت في العصر الحاضر ، فحري به أن يُدرس لطلبة العلم حيث إنه كنز ثمين لا يعرف قيمته إلا من قرأه وتأمله