بجسده النحيل وعينيه الجاحظتين وجراحه النازفة من وجهه، وصل شاب يبلغ من العمر 23 عاما إلى مستشفى دار الشفاء يتكئ على كتف زوجته الشابة التي كانت تحاول تهدئته دون جدوى، فصراخه وتشنجات الصرع التي كانت تأتيه بين لحظة واخرى أفزعت المرضى من حوله.
اقتراب الطبيب منه جعل الزوجة تبتعد قليلا وتخفي ما في جيبها.
بمجرد النظر إلى الشاب أدرك الطبيب حالته، وطرح عليه سؤالا إذا كان يتعاطى "ترمال"، وسرعان ما نفت زوجته لكن الزوج قاطعها واعترف بتعاطيه حبة ونصف قبل ذهابه إلى عمله كسائق باص أطفال، مما دفع الطبيب الى توبيخها لمداراتها على زوجها التي كادت تودي بحياته وغيره، لو استمر على ذلك لا سيما أن الترامال الذي يتعاطاه يزيد مرضه.
تلك الحالة التقطتها "الرسالة" خلال زيارتها لمشفى الشفاء في اطار بحثها عن مرضى الصرع في قطاع غزة لاسيما بعد ازدياد عددهم - بحسب احصائيات وزارة الصحة -، بالإضافة إلى التطرق لكيفية علاجه بعيدا عن الدجل والشعوذة، والكشف عن الموانع التي تحول دون عمل دراسات علمية عن الصرع بعدما اثبت مختصون ازدياده عقب حرب الفرقان.
الترامال والصرع
وفي حكاية أخرى تدل على جهل المجتمع لمرض الصرع، وصلت الشابة "علياء" -23 عاما- إلى إحدى مستشفيات القطاع تنزف دما وغائبة عن الوعي، عرضت على الطبيب فورا وأجروا لها صور اشعة بينت وجود كسور في الجمجمة.
معاناتها بدأت قبل عامين حينما اصابتها حالة من التشنجات العصبية نقلتها عائلتها على إثرها إلى "المشايخ" وذلك بسبب جهل العائلة وعدم مواجهة النفس بأن لديها مريض صرع.
حال العائلة استقر حينما سمعوا عن رجل ذاع صيته انه يخرج الجن فأسرعوا حاملين علياء إليه، وقتئذ راح يفحصها ومن ثم بدأ يضعها ويخرجها في ثلاثة براميل ويضربها بعصى خشبية ومن ثم يخلع حزامه الجلدي ويضربها ويردد "اخرج اخرج".
بعد فقدان الشابة وعيها استلمها ذووها ونقلت إلى المستشفى ليثبت لهم الطبيب أنها تعاني الصرع.. في البداية رفض الأهل النتيجة لكن بعد توعيتهم تقبلوا ابنتهم وباتوا يجلبون لها الدواء إلى أن تحسنت حالتها الصحية وعادت إلى دراستها.
ومن ناحيته يقول رئيس قسم الاعصاب في مستشفى الشفاء د. مازن الهندي: "الصرع منتشر في قطاع غزة نتيجة اسباب عدة منها اصابات الدماغ التي تنتج عن حوادث الطرق او جراء التعذيب في سجون الاحتلال (الإسرائيلي)، بالإضافة إلى أن العوامل الوراثية تلعب دورا كبيرا"، لافتا إلى وجود اسباب اخرى منها الامراض التي تصيب الدماغ كالجلطات الدماغية والنزيف الدماغي والحمى الشوكية لاسيما لدى الاطفال.
"الهندي: 30% من متعاطي الترامال مصابون بالصرع
"
ولفت إلى أن 70% من اسباب مرض الصرع لازالت مجهولة لقلة الابحاث وافتقار الخبرات والدعم المادي، كاشفا أن عدد المرضى المسجلين في عيادات وزارة الصحة وصل إلى 10 الاف مريض من مختلف الفئات.
ومن المعروف أن مرضى الاعصاب بحاجة إلى رعاية خاصة لاسيما الصرع وحول ذلك ذكر الهندي أن طرق التعامل تكمن في متابعتهم عبر العيادات الخاصة والحكومية، موضحا أن العلاج متوفر في الوقت الحالي وليس كالسابق.
ومن خلال متابعته لمرضى الصرع وجد أنهم يتعرضون لتكرار نوبات التشنج وفقدان الوعي رغم استمرار العلاج، لافتا إلى أن التشنجات قد تصيبهم عند تعرضهم لأشعة الشمس أو الجلوس أمام شاشة الكمبيوتر والتلفاز لفترات طويلة، وكذلك استخدام اجهزة الجوال.
وأكد رئيس قسم الاعصاب على أن العامل الاقتصادي مهم في علاج المرضى حيث توجد ادوية جيدة لكنها غالية الثمن ولا يستطيع أغلب المرضى شراءها، مبينا في الوقت ذاته أن الوزارة تصرف العلاج للمرضى مجانا.
وفي سؤال طرحته "الرسالة" حول امكانية زواج مرضى الصرع اجاب: " المصاب بالصرع يمكنه الزواج والانجاب، لكن ثقافة مجتمعنا الغزي تجهل المرض وتعتبره معديا وذلك غير صحيح".
وبحسب متابعة الهندي لحالات الصرع فإن هناك منطقة في القطاع تتحفظ "الرسالة" عن ذكرها يتوجه فيها المرضى إلى المشعوذين لمعالجتهم بأساليب غير اخلاقية كالضرب والجن، لافتا إلى ان كثيرا من المرضى يأتون بأعراض ارتجاج في الدماغ.
ونوه إلى أنه في الآونة الأخيرة من خلال المتابعة وجدوا المرضى يعانون صرعا هستيريا (نفسيا) ناتج عن ظروف اقتصادية ونفسية، كاشفا أن الترامال يؤدي إلى نوبات تشنجية صرعية ووجدوا 30% من مدمني الترامال يعانون من اعراض الصرع.
وبين الهندي أن نسبة كبيرة من مرضى التخلف العقلي يعانون الصرع، مشيرا إلى عدم وجود جمعيات لهم لإعالتهم اقتصاديا واجتماعيا.
ووفق مصدر خاص رفض الكشف عن اسمه أكد أن ابراج ارسال الأجهزة الخليوية اصبحت من العوامل التي تسبب نوبات صرع لاسيما وأن عددا لا بأس به من مرضى الصرع يعيشون في مناطق قريبة لأبراج الارسال.
العلاج بالقرآن
وإلى حالة اخرى في عيادة أحد الاطباء المختصين بعلاج الصرع جاءت فتاة - 17 عاما - حسنة الهيأة شاحبة الوجه تتقدم بخطوات بطيئة نحو الطبيب وعلامات الضرب المبرح بادية على جسدها، فقد بقيت حبيسة مرضها منذ خمس سنوات لكن قدمها لم تدخل عيادة طبيب مختص كون اهلها لم يقتنعوا انها تعاني الصرع، فكانوا يتنقلون بها من مشعوذ إلى اخر مع كل مرة تأتيها نوبة التشنج باعتبار جني يسكنها.
طبيبها يعلق على أن تلك الفتاة وبعضا من مرضى منطقتها الذين يعانون الصرع ينكرون مرضهم ويفضلون الذهاب الى السحرة والمشعوذين خشية القول أنهم مرضى.
وللحديث عن مرضى الصرع في المجتمع الغزي التقت "الرسالة" د. عايش سمور مدير مستشفى الطب النفسي ويعالج في عيادته الخاصة حالات كثيرة يقول: " لدينا في قطاع غزة زيادة في عدد حالات الصرع تصل إلى 5% بحسب احصاءات وزارة الصحة سببها الاحتلال والاصابات نتيجة الحروب وهذا العام ترجع الى زيادة استخدام اسلحة محرمة دوليا التي تؤدي إلى اصابات دماغية".
"سمور: حالات الصرع تزداد بعد الحروب
"
وأوضح أن زيادة مرضى الصرع في قطاع غزة يعد الاكثر في العالم لا سيما بعد حرب الفرقان، مشيرا إلى أنه كان يستقبل كل يومين أو ثلاثة مريض صرع لكن في الوقت الحالي أصبح المعدل اليومي مريض واحد على الأقل، داعيا إلى عمل ابحاث علمية لمعرفة الاسباب الحقيقية التي ادت إلى زيادة انتشار الصرع في قطاع غزة.
ووصف سمور الصرع أنه تشنجات عصبية تصحبها غيبوبة لمدة تزيد عن ربع ساعة قد يسبقها انذار بحدوث النوبة وغالبا يتبعها حالة من التوهان والرغبة في النوم مع بعض الاختلافات الجسمية، مبينا أن التعريف الوظيفي يعد اختلال في كهرباء الدماغ يكون على شكل نوبات مفاجئة تؤدي إلى فشل في ضبط أو تنظيم الوصلات الكهربائية في الدماغ ويصبح لديه تغيرات قد تكون نفسية او تشنجات عصبية (صرع) واضطراب سلوكي.
وبين أن الحالات التي تأتي إلى مستشفى الطب النفسي تعمل لها تحاليل شاملة لتحول إلى قسم الاعصاب في مستشفى الشفاء وتقديم العلاج والرعاية الاولية لهم.
وعن كيفية وصول الحالات قال سمور: "تأتي الحالة بعد شكوى الاهالي فتخضع إلى تخطيط دماغ واشعة مقطعية وفي حال ثبت أن الحالة ليست عضوية يتم التعامل معها على انها صرع"، مضيفا : سبب الصرع في الكبر عضوي فقد يعاني المريض من الغدد أو تشنجات عصبية كنقص الكالسيوم واضطراب في المحاليل.
وعن الفئة الاكثر عرضة للإصابة بالصرع ذكر أن نسبة انتشار التشنجات العصبية لدى الاطفال اعلى من الكبار وتتراوح بين 3 - 5 % باعتبارهم في مرحلة نمو وقد يكون هناك خلل في نمو الخلايا العصبية يؤدي إلى حالات الصرع، مشيرا إلى أن 50% من الاطفال يشفون من التشنجات بشكل تام والاخرين بحاجة لعلاج دائم وبفترات متقطعة .
وفيما يتعلق بالأسباب التي أدت إلى اصابة الحالات التي يتابعها بالصرع أوضح سمور أن هناك أسباب عدة منها العامل الأسري كزواج الاقارب والاجهاد النفسي الشديد والعضلي وكذلك التعرض إلى البرد وقلة النوم وكثر شرب المكيفات كالشاي والقهوة والسجائر، مشيرا إلى أن التعرض لرطوبة الصيف والشمس الحامية خاصة في غزة تسبب التشنجات.
وبحسب قوله فإن مريض الصرع يعتبره ذووه مشكلة صعبة لعدم تحملهم مشاهدته وهو يعاني وكأنه يصارع الموت مما يضطرهم للبحث عن علاج اخر كاللجوء إلى المشعوذين، لافتا إلى أن المرضى يعدون الصرع وصمة وفي حال تم مواجهة أحدهم بأن لديه الصرع يشعر بالضيق بخلاف لو استبدل اسم المرض بالتشنجات العصبية فهو يتقبلها أكثر.
وتحدث سمور أن نوبة الصرع لو استمرت لفترة طويلة قد تؤدي إلى موت المريض حينما يدخل في نوبة لا عودة منها وذلك لنقص الاكسجين في الدماغ، مبينا انه حينما يدخل المريض في نوبة يبدأ بإحداث صوت وصرخات ومن ثم يقع ارضا نتيجة الاختلال العصبي وتجحظ عيناه وتصيبه تشنجات في الوجه.
توفير العلاج والابحاث
وكما ذكر رئيس قسم الاعصاب د. الهندي أن 70% من اسباب الصرع غير معروفة في غزة لعدم وجود دراسات كافية، "الرسالة" بدورها توجهت إلى محمد السرساوي مدير دائرة البحث العلمي في وزارة الصحة حيث ذكر أن هناك مشكلة تواجههم في اعداد الابحاث التي تثبت ان الاحتلال هو سبب الصرع لما يقذفه من اسلحة تسبب التشنجات، موضحا أن أي بحث علمي بحاجة إلى تمويل لكن في الوقت الحالي يصعب على الوزارة توفير ذلك.
و أشار إلى أنهم يعملون على تسهيل مهمات الباحثين في خارج وداخل الوزارة ومن يحصل على تمويل بجهد شخصي او طالب يأتي لعمل بحث تسهيل مهمته للحصول على المعلومات بما لا يتعارض مع مصلحة العمل دون الاعتداء على حقوق المرضى.
وبحسب السرساوي فإن التمويل معدوم لذا تعمل الوزارة على توفير العلاج باعتباره حاجة ملحة اكثر من المصادر الموجودة للأبحاث، مبينا أن عمل الوزارة يعد ادارة ازمة أكثر من اجراء الدراسات والابحاث.
"السرساوي: تفتقر وزارة الصحة أبحاثا عن الصرع لقلة الدعم المادي
"
احد المصادر في دائرة البحث العلمي علق خلال الحديث قائلا : " مطلع كل عام يأتينا كتاب من الوزارة لتحديد ما نريد من احتياجات لكن لا توجد استجابة لمطالبنا".
بعد سماع تلك الشكوى تواصلنا مع د. محمد الكاشف مدير عام التعاون الدولي في وزارة الصحة ويقول : " الصحة تشجع الابحاث الصحية في مجالات الرعاية الصحية الاولوية والثانوية ومن ضمنها الامراض العصبية كالصرع وغيره".
"الكاشف: ندعم الابحاث التي ترتقي بالخدمات الصحية
"
وأضاف: البحث له تمويل من خلال التعاون الدولي لتخفيف نفقات الابحاث عنهم ومشاركة الجهات الدولية والعربية التي يمكن أن يكون لها دور في مثل هذه الابحاث "، مشيرا إلى أن الامراض العصبية والنفسية وغيرها تأثرت بفعل العدوان (الإسرائيلي) واستخدام الاسلحة المحرمة دوليا .
وأكد الكاشف على انه من منطلق حرص وزارته على تشجيع الابحاث كان هناك المجلس الفلسطيني العلمي الذي يعني بجميع الابحاث العلمية خاصة أنه يضم نخبة من العاملين في الوزارة والجامعات والمؤسسات الاهلية، مبينا أن وزارته على استعداد لاستقبال الابحاث التي تعتبر من اوليات الوزارة لتحسين الخدمات الصحية المقدمة للمواطنين وتقديم الدعم المادي لها بعد مرورها على لجنة مختصة.
النوبة القادمة
الجهل ليس وحده من يدفع الانسان إلى الدجالين بدلا من الاطباء المختصين فهناك حالة لشاب بلغ عمره 18 عاما يعاني الصرع منذ صغره لكن والده المتعلم كان يخفي مرضه إلى أن ضجر من معاناة ابنه واصطحبه إلى شيخ يدعي انه يعالج بالقرآن وقتئذ هدئ الشاب وبقي على حاله اربعة ايام بعدها سارع والده ليخبر الطبيب أن ابنه شفي وتوقف عن العلاج، لكن لم يلبث اسبوعا الا وعادت له التشنجات وازداد وضعه سوءا.
ومن الناحية النفسية تحدث رئيس أقسام الطب النفسي في وزارة الصحة د. عبدالله العايدي قائلا: " الموروث الثقافي جعل مجتمعنا لا يتقبل مريض الصرع بدلا من التعامل معه بطريقة طبيعية كي لا يشعر أن مرضه قاتل وعنيف "، مبينا انه من الضروري زيادة الوعي لدى المجتمع بأن المرض يمكن علاجه.
"العايدي: نظرة المجتمع تدفع المريض للقلق وترقب النوبة المقبلة
"
ولفت إلى أن الصورة لدى المجتمع بالنسبة لمريض الصرع هي أنه سيموت بأية لحظة مما يولد لدى المريض القلق والتوتر ويشعر بالنقص وتغيرات بجسمه ويبدأ بالترقب للنوبة القادمة، مشيرا إلى أن نظرة المجتمع السلبية تؤثر على نفسية مريض الصرع وتشعره انه غير منتج وعاجز عن العمل أو الدراسة.
وفيما يتعلق في لجوء كثير من مرضى الصرع إلى المشعوذين بدلا من الأطباء يرى العايدي أن المجتمع لديه فهم بأن الصرع من الجن أو المس، مبينا أن استخدام مصطلح تشنجات عصبية بدلا من الصرع يخفف من تأثير الوصمة لدى الشخص المصاب.
وفي كثير من الاحيان نجد فتيات وشبانا حينما يتزوجون يخف مرضهم عن شريكهم وحول ذلك يقول: " نظرا لعدم تقبل المجتمع للصرع تلجأ كثير من العائلات لإخفائه ويتممون زواجهم بالخديعة لكن بمجرد مضي شهور عدة تكتشف اللعبة وتؤدي إلى الطلاق، لاسيما في حال كان احد الزوجين غير مؤهل لتقبل الامر".
ورغم ارتفاع حالات الصرع في القطاع لأسباب معروفة وأخرى مجهولة تبقى نظرة المجتمع للمرضى منبوذة وكأن جنا يمسهم، لذا من الضروري أن تدعم وزارة الصحة الابحاث العلمية المتخصصة لمعرفة الأسباب الحقيقية والحد منها.