رام الله - لمراسلنا
مشاهد الأحجار العتيقة وهي تداس ببساطير الجنود، والمنازل العريقة وهي تُسكن عنوةً بمن تلفظهم عراقتها، والسماء التي باتت زرقتها مزيفة بأعلامهم، والمآذن التي تُدفن أصواتها ألماً تحت شعائرهم.. كلها ليست وحيدةً في المدينة المقدسة.
وضمن سياسة الصمود التي ينتهجها المقدسيون أمام آلة التهويد وسياسات التهجير والتنكيل التي يتبعها الاحتلال في القدس المحتلة، يبرز مشروع "سياحة الجذور" الذي أطلقته الهيئة الشعبية المقدسية بالتعاون مع كل مقدسي يحب أرضه ويريد أن يحميها.
الفكرة
وتعود بداية المشروع إلى ثمانية أشهر مضت، حين بدأت الهجمة تشتد على منازل المقدسيين بتهديد من أنياب الهدم الناهشة لكل بيت فلسطيني في القدس المحتلة وضواحيها.
ويقول عضو الهيئة الشعبية المقدسية إيهاب الجلاد: "فكرة المشروع عادت بفعالية قبل ايام قليلة لتذكّر المقدسيين بأن مدينتهم احتلت مرتين في عامي 1948 و1967، وأن عشرات القرى المهجرة ما زالت على حالها دون أن يستوطنها المغتصبون، الأمر الذي عزز فكرة القيام بهذا المشروع لربط المقدسيين بأرضهم" .
ويلفت الجلاد إلى أن الاحتلال يكثف استيطانه في المناطق المحتلة عام 1967 ويترك المناطق الأخرى التي احتلها قبل 62 عاماً كمناطق خضراء ومحميات طبيعية ومتنزهات، مؤكداً على أن دور المقدسيين يتمثل في العودة إلى تلك الأراضي وتشديد صلتهم بها.
ويضيف:" هم يهاجموننا في بيوتنا بالقدس المحتلة في الشيخ جراح وسلوان ويريدون أن يحولوا مدينتنا إلى حدائق تلمودية، فأقل المطلوب منا هو أن نزور أراضينا المهجرة عام 1948 وأن نذكّر المواطنين بها".
الآلية والتنفيذ
ويقوم المشروع الأول من نوعه في الأراضي المحتلة على تنظيم رحلات سياحية للمقدسيين وفلسطينيي الأراضي المحتلة عام 1948 إلى تلك القرى المهجرة والتي تبلغ 38 قرية لم تدنسها يد مغتصب وما زالت بيوتها ماثلة تحكي جرح النكبة.
ويوضح الجلاد أن تلك الأراضي رائعة الجمال من الناحية الطبيعية، حيث تحوي أشجاراً خضراء وينابيع مياه وسهولاً وجبالاً متنوعة، مبيناً أن هذه السياسة تثبت الشبان بأرضهم وتذكرهم بأصلهم عبر ربط السياحة بالعودة إلى جذورهم الأصلية دون الارتباط بأعوام معينة.
ويقول الجلاد إن مجموعات عمل وشرح متواصل حول تاريخ القرى المهجرة يسود أجواء الرحلات، حيث يعود المرشد بالزائرين إلى التاريخ الفلسطيني قبل عام 1948 حتى يصل إلى النكبة وما بعدها، مؤكداً أن تلك الرحلات تدحض ادعاءات الاحتلال بأن عودة الفلسطيني إلى أرضه غير ممكنة لأن معظم الأراضي بقيت على حالها وحولها المغتصبون إلى محميات طبيعية.
ويلاقي هذا المشروع إقبالاً كبيراً من المقدسيين الذين بدأوا يغيرون فكرتهم عن السياحة حتى حولوها إلى أخرى تزيد من تمسكهم بأرضهم إضافة إلى الحصول على الاستجمام والتمتع بالمناظر الطبيعية.
ويبين الجلاد أن الرحلة الواحدة تضم ما يقارب 120 مقدسياً دون أن يكون هناك سقف زمني محدد لها كي يكون المشروع واحداً من العادات السياحية لدى المقدسيين، ويتابع :" الكثيرون يعتقدون بأن القرى المهجرة عبارة عن أماكن حزينة كئيبة يتحسر فيها الإنسان على ما ضاع منه، ولكنها بالفعل مناطق خلابة لم تتم زيارتها، نحن نحاول فقط أن نزرع الناس بأرضهم وأن يكثفوا تواجدهم فيها".
ويعرب الجلاد عن أمله في إدخال هذا المشروع ضمن النشاط اللامنهجي لطلبة المدارس المقدسية على شكل زيارات تنظم دورياً لتلك القرى مع شرح مفصل عن تاريخها وما حل بها من قبل الاحتلال، لافتاً إلى أن بعض المشاريع يتم تنفيذها على هذا النحو مع طلبة المدارس ولكن على شكل ضيق داخل القدس المحتلة.
تضييق
ولا بد لاحتلالٍ يسعى إلى الاستيلاء على كل ما هو فلسطيني أن يعرقل مثل تلك المشاريع التي من شأنها زيادة صمود المقدسيين في مدينتهم، فالقائمون على المشروع يؤكدون تعرضهم لمضايقات من قبل الاحتلال.
ويقول الجلاد:" يحاولون أحياناً أن يسيرون دورياتهم باتجاهنا وأخذ الهويات وفحصها والاستفسار عن سبب الرحلة وأحيانا اقتياد المرشدين إلى مراكز التحقيق لاستجوابهم، ولكننا بالمقابل نحاول ألا نزيد أعداد المشاركين في كل جولة حتى لا نلفت انتباه الجنود على الرغم من أننا لا نتجاوز قانونهم بالتجول في أماكن محظورة حسب قواميسهم، وأساليبهم كلها لن تمنعنا من زيارة أرضنا أو المطالبة بالرجوع إليها لأن هذا حقنا".
ولا تقتصر أشكال صمود المقدسيين على مشروع سياحة الجذور فحسب، وإنما تمتد لتشمل المسيرات الأسبوعية ضد الاستيطان وتهويد المدينة المقدسة خاصة في حي الشيخ جراح، والرباط في المسجد الأقصى المبارك لحمايته من المغتصبين وتسيير الحافلات المجانية إليه، وتنظيم الندوات والمحاضرات التي تشرح تاريخ المدينة وخطر التهويد، وعرض الأفلام الوثائقية والتسجيلية التي تحكي ما حل بالقدس المحتلة وما سيؤول إليه حالها إذا استمر الاستيطان ينهش أراضيها ومنازلها.
وتبقى سياسة الصمود الفردي الذي أرضعته الأرض المحتلة لأبنائها أبرز تلك الأشكال وأكثرها جدوى في مواجهة أيادي الاحتلال الحاقدة ومغتصبيه، فحي الشيخ جراح وبلدة سلوان وجبل المكبر وجبل الزيتون والبلدة القديمة ما زالوا شهوداً على قدرة المقدسيين على حماية أرضهم والبقاء فيها ما بقي الزعتر والزيتون.