في ديسمبر من العام 2011 سنحت لي فرصة المشاركة في منتدى الإعلام العربي التركي في اسطنبول، الذي ضم نخبة من الإعلاميين من الوطن العربي وتركيا.
ولما كنا نتنقل في الباص داخل اسطنبول، كنت أتحدث مع صديق صحفي من غزة عن مداخلة قدمها إعلامي سوري خلال جلسات المؤتمر بدا فيها وكأنه يترافع عن نظام الأسد بينما تشتعل سوريا سنة أولى ثورة.
وكانت صحفية سورية تجلس أمامنا، بينما تركت أذنيها إلى جوارنا والتقطت أجهزة الرادار كلماتي وأنا أهمس: كان ينقصه أن يهتف "الله.. سوريا.. بشار وبس"، ويبدو أن أذنيها لم تسجل أول كلمتين وسمعت الهتاف فقط. فالتفتت إلينا وأرسلت نظرة ملؤها الغضب والاستنكار، وقد علمنا لاحقا أنها اعتقدت أننا من مؤيدي الأسد، وظلت تطاردنا بنظرات الاستهجان كلما قابلتنا خلال المؤتمر.
ولما كنا نحن الفلسطينيين نحاول ان ننأى بأنفسنا عن الصراعات الداخلية للأشقاء العرب حاولنا توضيح موقفنا للزميلة السورية أننا لسنا من أعوان الأسد، وقد أتيحت الفرصة من خلال مناقشة مع مراسلة لبنانية في جريدة الأخبار، على هامش المؤتمر، إلا أنني اكتشفت أن صاحبتنا اللبنانية من مؤيدي نظام الأسد بشدة واستنكرت موقفي "المائع" على اعتبار أننا الفلسطينيين يجب أن نحسم موقفنا مع النظام الذي دعم مقاومتنا.. "يعني جينا نكحلها عمينها".
وأصبح من الصعب إرضاء الصحفية السورية أو اللبنانية معا، وفي كل الأحوال سينطبق علينا المثل الشعبي: "بين حانا ومانا ضاعت لحانا".
ويبدو أن قصة النأي بالنفس للفلسطيني لم تجد نفعا على مدار تاريخ صراعات الاشقاء العرب، فعندما دارت رحى الحرب الأهلية في لبنان عام 75 لم تمض سنوات حتى كان الفلسطينيون ممثلين بفصائل منظمة التحرير وسط القتال، ودفعنا الثمن غاليا.
وعندما "اصطدم" صدام مع الكويتيين واجتاح الكويت في 1990 أصبح الفلسطينيون في ويوم وليلة طرفا في الأزمة، وبعد حرب الخليج الأولى 1991 تعرضوا للانتقام في الكويت نتيجة مواقف المنظمة.
وبعد غزو العراق في حرب الخليج الثالثة احترق الفلسطينيون في نار الحرب الطائفية وعاشت مئات العوائل الفلسطينية على هامش الحدود العربية هربا من الحقد الأعمى.
ثم وقعنا لسنوات ضحايا سندان دول الاعتدال العربي، ومطرقة دولة الممانعة، قبل هبوب رياح الربيع العربي، وتواصل الخريف الفلسطيني، بعد الثورات، فهربنا من ليبيا، و"أكلناها ولعة" في سوريا، ثم تحولنا إلى كيس للضرب بين النظام المصري والمعارضة، ولم نسلم في الأردن، فكلما تصاعد الاشتباك السياسي الداخلي، نبشوا قصة الأردني ذي الأصول الفلسطينية، فيما لازلنا في لبنان "ملطشة" كلما هربوا من صراعاتهم الطائفية، أو ورقة للمزايدة السياسية بين المعارضة والموالاة، كما جرى في مخيم نهر البارد وكما يجري كل يوم في مخيمات لبنان.
من الآخر.. ما دمنا نعيش على هامش الجغرافيا العربية، وشعب بلا وطن، ودولة دون سيادة، وسلطة قبل التحرير، وفصائل دون وحدة، ومنظمة ناقصة التمثيل، وجواز سفر دون كرامة، ومعبر في اتجاه واحد، ورئيس في الاتجاه المعاكس، وحكومتين برأسين، أمام كل ذلك سنبقى "الحيطة الواطية" للأشقاء قبل الغرباء.