الغربة والعيش بعيدا عن الأهل والوطن لـ 31 عاماً، لم تكونا كفيلتين للرأفة بحال أم العبد (اسم مستعار) التي تنقلت بين ثلاثة بلدان عربية، للعيش بحرية وكرامة، والحصول على أبسط متطلبات الحياة.
الخمسينية "أم العبد" فلسطينية عادت إلى مسقط رأسها غزة بعد أن عاشت 26 عاما في مخيمات اللجوء بسوريا، ومرّت بمراحل صعبة خلال حياتها الطويلة، كانت كفيلة بأن تقلل من عزيمة الكثيرين، لكنها وقفت في وجه الصدمات، وصبرت على كل الابتلاءات.
بدأت مراحل المعاناة في حياة "أم العبد" بخروجها من بيت أهلها في غزة إلى عش الزوجية، لتنتقل مع زوجها مباشرة للعيش في الأردن؛ لأنه كان أسيراً محرراً مبعداً من القطاع.
مكثت في الأردن ست سنوات، بيد أن ظروف الحياة الصعبة اضطرتها وزوجها لمغادرة البلاد، وبدء مرحلة جديدة من المعاناة متجهين إلى سوريا، ليستقروا في مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين.
عائلة "أم العبد" مكونة من ثمانية أفراد (3 أبناء، اثنين منهم متزوجين، وحفيدين)، وهي أرملة منذ 12 عاماً، وحملت على عاتقها إعالة أسرتها بجانب أبنائها.
الثورة السورية
وبعد استقرار العائلة في سوريا، والعيش فيها لأكثر من 26 عاماً، وتحمل أعباء الحياة بحلوها ومُرّها، جاء ما ينغص حياة "أم العبد" وأبنائها، ويقلقهم من خطر اسمه "الموت".
اشتعلت أحداث الثورة في الأراضي السورية، إلا أن الأم وأبناءها أصروا على البقاء هناك، ومع استمرار سوء الوضع واستهداف المخيمات الفلسطينية بشكل عنيف وغير مسبوق، وصعوبة الأوضاع، قرّرت العائلة الخروج من المخيم هرباً من الموت، والذهاب إلى مأوى جديد يحميهم من الخطر المحدق بهم في أي لحظة.
أجمع القدر على تفريق العائلة الصغيرة عن بعضها وتقسيمها إلى جزأين، بعد أن قرر أحد أبنائها اللجوء هو وزوجته إلى الأراضي اللبنانية، وباقي أفراد الأسرة قرروا العودة إلى مسقط رأسهم (غزة).
"معبر الموت"
عندما قررت العائلة العودة إلى غزة، بدأ التفكير في الطريقة التي يستطيعون بها الخروج من مخيم اليرموك وصولاً إلى دمشق ومنها إلى القطاع؛ للتخلص من جحيم المعارك في سوريا.
اتفق الجميع على "الكذبة المُنجية" التي سيقولونها لكل من يواجههم في الطريق، حتى يتمكنوا الخروج بسلام وأمان، وجاء التفكير في هذه "الكذبة" لأن بوابة المخيم يطلق عليها "معبر الموت" والداخل منها مفقود والخارج مولود، من شدة الذل والظلم الذي يتعرض له الفلسطينيون. وفق رواية "أم العبد" وأبنائها.
"الرواية المنجية" هي: عند سؤالهم من أي جماعة تقابلهم سواء كانت من الجيش الحر أو من قوات بشار الأسد إلى أين ذاهبين؟ الإجابة تكون "إلى بيت خالتنا في دمشق".
ساروا في طريقهم وحصل ما توقعوه بالتوقف عند حواجز يسيطر عليها إما الجيش الحر أو الجيش النظامي، وفي كل مرة يتم سؤالهم عن وجهتهم، وتكون الإجابة موحدة من جميع أفراد العائلة "إلى بيت خالتنا"، حتى وصولهم لبوابة "الموت" التي يسيطر عليها جيش الأسد، وقالوا لهم نفس الرواية حتى استطاعوا الخروج من المخيم بأمان.
أم العبد تقول بصوت خافت "كنا نسمع عن معبر رفح بأنه أصعب المعابر في العالم، ولكن بعد ما شاهدناه بأم أعيننا، فإنه رحمة من الله وجنة، مقارنة بمعبر الموت".
في الطريق إلى غزة
وصلت "أم العبد" وأبناؤها إلى دمشق بسلام، ومنها توجهوا إلى المطار مباشرة، حتى يتمكنوا من الهرب من سوريا بأسرع وقت ممكن قبل أن يعرف أحد قصتهم، ثم سافروا إلى مصر، في طريقهم إلى غزة، دون مواجهة أي مشاكل تحول دون وصولهم.
وسبب عودة أم العبد إلى غزة مفضلة إياها على أي مكان آخر؛ أنها لم تأت إلى القطاع منذ 31 عاماً ولم ترَ أهلها منذ تلك المدة.
كانت فرحتها بعودتها إلى غزة "فوق ما تخيلت أو تصورت" وتفوق بشدة مراحل حزنها عما جرى لها ولعائلتها من تشريد وتشتيت.
وبعدما أخذت "أم العبد" نفساً عميقاً تضيف لـ"الرسالة نت"، "بمجرد أن وطأت قدماي غزة ورأيت بحرها واستنشقت هواءها، هدأت نفسي، وجلت كل الهموم التي واجهتني خلال حياتي كلها".
"لا سكن ولا عمل"
وتستمر معاناة عائلة "أم العبد" فور وصولها غزة، بعدم حصولها على سكن، وتنقلها من يوم إلى آخر بين منازل أخوتها وأخواتها، دون وجود مأوى خاص بهم، مؤكدة عدم استقرار أوضاع الأسرة حتى اللحظة.
العائلة جاءت إلى غزة من الصفر، ولم يأتوا بشيء معهم من المخيم إلا الملابس التي عليهم، كما روت أم العبد.
وبالنسبة لأبنائها، خاصة المتزوج –يعيل طفلين وزوجته- فلم يتبين لهم أي نوع من السكن أو العمل حتى الآن، ولم يروا أي مساعدة من أحد غير عائلتها.
وسجّلت "أم العبد" في وكالة الغوث للحصول على سكن، ولكن حتى اللحظة لم تتلق رداً، كما سجلت في وزارة الإسكان للحصول على شقق سكنية في مدينة الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني.
أبناؤها الشباب الذين جاءوا معها إلى غزة هم من خريجي المعاهد في سوريا، وإلى الآن لم يجدوا فرصة عمل لأنهم وفق وصفها "خام" بمعنى أنهم لم يتعرفوا على المكان بعد وبحاجة إلى من يأخذ بيدهم ويساعدهم حتى يعيشوا بكرامة.
العودة إلى سوريا
وعن رغبة "أم العبد" في العودة إلى سوريا، ولبيتها الذي تركته هناك، تشير إلى أنه في حال تحسنت الأوضاع وحصلت على سكن وحياة كريمة في غزة "فلن تعود البتة"، وستبقى هنا بين أهلها وأقاربها، قائلة "يكفيني غربة 31 سنة".
وتقول: "رب ضارة نافعة وما حدث في سوريا، جعلني أتشجع للعودة إلى أهلي؛ حتى يعيش أبنائي بين أقاربهم ويتعرفوا عليهم، وفي حال واجهتم مشاكل لا قدر الله يجدوا من يشد على أياديهم".
"ما عاد في العمر قد ما مضى، ولكن هذا لا يمنع من حبي لكل ما يوجد في سوريا وارتباطي ببيتي الذي قضيت معظم حياتي فيه، وربما يعود ابني الذي لجأ إلى لبنان لبيتنا في المخيم، في حال تحسنت الأوضاع" تضيف أم العبد، آملة بأن تعود سوريا مثلما كانت بلد "المحبة والخير، وبلد الفقير والغني، والكبير والصغير".
وتتمنى أن تعيش "مستورة" في غزة، وأن يجد أبناؤها عملا يكسبوا من خلاله قوت يومهم، ويعشوا حياة كريمة.
وختمت أم العبد حديثها وعينيها غارقتين بالدموع، قائلة "أنا لا طالبة غنى ولا بدي الفقر تكفيني الحياة الوسط والحمد لله على كل شيء".