تقليب النظر في حياة الناس، والتدقيق في مسار عيشها وطبيعة سلوكياتها يكشف عن خواء روحي وقلبي رهيب، وطغيان مادي مفجع بلا حدود.
عالم القلوب عجيب لا يعلم به إلا الله، فهو يتعلق بتلك اللطيفة الربانية التي أودعها الله داخل جسد الإنسان كي تكون محطّ نوره وطهره ونقائه وصفائه، ومناط فوزه ونجاحه في الدنيا والآخرة، ومستودع الأسرار الإلهية التي تشي بعظمة الخالق وسر الوجود.
لكن القلوب اليوم ليست على ما يرام، بل إنها -إلا من رحم الله- ليست على الحال الذي يرضي الله ورسوله، فقد غرتها الدنيا بفتنتها وشهواتها، وغلب عليها الران القاتل، وغلّقت عليها الغفلة سبل وأبواب الوصول، فباتت قلوبا تائهة، تهيم بعيدا عن الله، ولا تقيم وزنا لدار المعاد والخلود، ولا تفكر إلا في عالم المادة والزخارف الفانية والمتاع الرخيص.
من هنا نستطيع تفسير سر الاحتقان الكبير الذي يعتمل داخل ثنايا المجتمع، وسبب شيوع المفاسد وانتشار المظالم بين الناس، والباعث الأهم على وقوع بعض الجرائم التي هزت ساحة قطاع غزة مؤخرا.
لا تكاد تجد أحدا يتوشح الصبر ويتحلى بالرضا والقناعة إلا من رحم ربك، فكثرة الشكوى وندب الحال ولعن الأيام هي سيدة الموقف، ولا تميّز في ذلك غنيا أو فقيرا، فالكل يشكو الهمّ وضيق المعاش وسوء الحال، إنْ على مستوى الفقير ومتعسّر الحال الذي أرهقته البطالة وغلاء الأسعار، أو على مستوى الغنيّ وميسور الحال الذي أزعجه انخفاض أو تأثر المؤشر البياني لمحصلة ربحه المادي بفعل ظروف وقيود الحصار والعدوان، فبات يضرب أخماسا بأسداس، ويترحم على الأيام الغابرة، ويُمني نفسه بيوم خلاص قريب يرى فيه طوق النجاة ونهاية الأحزان!
من الصعوبة بمكان أن يدرك هؤلاء وهؤلاء علّة ضيقهم وتعسّر حياتهم ما دامت الدنيا وشهواتها متربعة على عرش قلوبهم، ولن يلتفتوا إلى قول الله تعالى "وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى"، وإن استمعوا إليه لامس آذانهم دون قلوبهم، وكيف لموعظة عميقة أن تدق قلوب الغافلين اللاهين عن أصل حياتهم وسر وجودهم؟! وكيف للخطوب وحوادث الأيام أن تهز القلوب التي أُشربت الفتن ونسيت القبر والدار الآخرة؟!
كم هو الفارق شاسع وكبير بين القلب المؤمن الذي يحيا ويفيض بنور الله، وتنسكب فيه قيم الرضا والقناعة والطمأنينة والحمد والشكر، حتى لو كان مدقع الفقر، يعيش في كوخ أو مأوى حقير بالمقاييس المادية، وبين القلب المظلم أو الغافل الذي يعكس ظلمته وعفلته على حياة صاحبه فيحيلها إلى أزمات نفسية متلاحقة وجحيم لا يطاق!
لذا، نجزم بكل الثقة واليقين أن مفتاح الحل يبدأ وينتهي في القلب، فهو مستودع الخير والراحة والأمان، وأن السبيل الأوحد لعلاج أزماتنا الراهنة يكمن في تنظيف وتطهير قلوبنا من كل العلائق والأوساخ والأدران والأمراض، كي تضيء من بعد بنور الله، وتشرق بالخير والمحبة والرحمة واليقين، وتحيل حياة الإنسان إلى كتلة من التقوى والاطمئنان النفسي والرضا بالقليل والتسليم بأمر الله.
صلاحنا وصلاح مجتمعنا وصلاح أوطاننا يبدأ من صلاح قلوبنا.. فالقلوب الخاوية من الله لا تعرف معروفا ولا تنكر منكرا، ولا يُعوّل عليها في جهاد أو تحرير، بل إنها تشكل السبب الأهم للهزيمة والفشل وتأخر النصر والتمكين.