قائمة الموقع

مقال: ثقافة الصراخ

2013-06-17T05:44:45+03:00
أ. وسام عفيفة (أرشيف)
بقلم/ وسام عفيفة

الصوت العالي أو الصراخ أو الصياح، سلوك اجتماعي وحالة ثقافية تشاركنا أوقاتنا كافة.

ليس كل الصوت العالي خيرا, لأن منه ما هو ملوث للجو، ولو علم ناشطو البيئة المعتصمون في ساحة تقسيم في تركيا حجم ثقافة الصراخ المتجذرة في بلدنا لنقلوا خيامهم من حديقة غازي إلى ساحة الجندي المجهول وسط غزة.

يمكن أن أضرب مثالا من يوميات مواطن مع الصراخ والصوت العالي: الجمعة يوم إجازة ينتظره الموظفون الذين يحنون إلى الاستيقاظ متأخرا, ومع أولى بشائر أشعة الشمس تقتحم أذنيك أول النداءات الشعبية: "حلاوة يا بطيخ.. حلاوة يا بطيخ", ويستمر نداء البطيخ دون انقطاع بعدما يرابط البائع والحصان تحت شباك غرفة النوم لتتذوق مرارة البطيخ، ثم تنجلي العاصفة.

ومع المحاولات اليائسة لاستعادة سلطان النوم تتوالى النداءات تباعا: "كلور.. كلور", فتنقلب على جنب آخر, "نحاس ألمونيوم"، فتضع الوسادة على رأسك, "اللي عنده بطاريات خربانة", فتسخن بطارية دماغك, ثم يقسم آخر: "والله لبيعك يا ملوخية.. حبش يا ملووخ", وتدخل "السريده البايته" على الخط: "سريده.. سريده", في النهاية تقرر أن تقوم من "البسطة" التي تنام عليها, في حين أن أحدهم يهديك "لحن المية الحلوة" لتهدئتك.

على أي حال: حصل خير, معوضة بنومة القيلولة, ويكفي أن تسترخي الأعصاب خلال خطبة صلاة الجمعة, ولكن حتى هذه الأمنية لم ننلها, فبمجرد أن اعتلى الخطيب المنبر ونظر إلى المصلين شزْرا كأنه يتوعدهم حتى انتقم من الميكروفون وهو يرفع صوته بالويل والوعيد والثبور, ومع أن رفع الصوت وخفضه من أساليب الخطابة لشد انتباه المصلين, فإن الرجل "نط وحط" وهو يصرخ علينا بضرورة أن نتقي الله, وكررها عدة مرات حتى ظننت أنه "ماسك علينا ممسك".

على العموم: أرحنا آذاننا بالصلاة والوقوف بين يدي الله بعيدا عن كل صراخ الدنيا, ولكن مع التسليمة الأولى للإمام شعرت كأننا انتقلنا في لحظة عبر آلة الزمن إلى وسط سوق, فقد انفجر صوت الباعة على أبواب المسجد في تنافس شديد بالصراخ حتى تخيلت أحدهم وقد مد رقبته إلى داخل المسجد, ووضع فمه في أذني ليبشرني أن لديه بندورة وخيار, كما تعرفت إلى عدد آخر من الأصوات على باب المسجد كانت قد اقتحمت غرفة نومي لتوقظني صباحا.

كل ذلك لا يهم, لأنها أرزاق الناس, والرزق يحب الصوت العالي, ويكفي قيلولة الظهيرة تعويضا عن كل هذا العناء.

أجمل ما في القيلولة النعاس المتدرج, والتلذذ بلحظات الغرق في النوم التي لها مفعول سحري على كل الجسد الذي يذهب في رحلة استرخاء ممتعة, وفجأة..

انتقل جاري وزوجته عندي في غرفة النوم, وأصرا بنقاشهما بصوت مرتفع أن يطلعاني إجباريا على مشكلة عائلية.

لم يقف الأمر عند هذا الحد بل تحول النقاش إلى شتائم، فصار يلعن "اليوم اللي جمعه بها", في حين كانت هي تلعن "أبو سلسفين أهله", وتصف أمه بأبشع الأوصاف, وتطور الأمر حد مد الأيدي, فكانت النتيجة صوت نواح الزوجة كعواء الذئب, ما سبب لي قشعريرة في جسدي, ثم تلاشت الأصوات تدريجيا مع بكاء المرأة ثم "الشحتفه".

ولا أخفيكم رغم ضيقي مما حصل لكنني سعدت بأن الرجل حسم المعركة وانتهى الصراخ, فأصبح بإمكاني أن استأنف النوم.

خلال محاولة العودة إلى طريق النعاس, قفزت قهقهة إلى أذني كأنها سقوط الأواني في المطبخ, ثم جلجلت ضحكة كصهيل الخيل, فعلمت أن الرجل يصالح زوجته بعدما أشركاني إجباريا جلسة العتاب.

وهكذا، بثقافة الصوت العالي والصياح والتهليل الباعة صرفوا بضاعتهم, وتم توزيع المياه الحلوة, وهدد الخطيب المقصرين في الطاعة والعبادة, وتخانق الرجل مع زوجته ثم انتهت المواجهة بنهاية سعيدة, وانتهى يوم الجمعة دون راحة أو نوم.

 

اخبار ذات صلة