قائد الطوفان قائد الطوفان

جمهورية الضباط تدافع عن مصالحها المتجذرة

لهذه الأسباب انقلب الجيش المصري على مرسي

الجيش المصري (الارشيف)
الجيش المصري (الارشيف)

القاهرة- الرسالة نت

أعطى تسليم المجلس الأعلى للقوات المسلحة السلطة رسميا إلى الرئيس المنتخب محمد مرسي، في 30 حزيران/يونيو 2012، مؤشّرا مهما على نهاية مرحلة مضطربة في عملية الانتقال السياسي في مصر وبداية أخرى يبدو أنها ستكون أطول وأكثر تعقيدا بعد الانقلاب العسكري على الرئيس المنتخب 30 يونيو 2013.

لاحقا واجه الرئيس المنتخب، "جمهورية الضباط"، المتمثّلة بشبكات عسكرية مستديمة تخترق كل فروع ومستويات إدارات الدولة المصرية والقطاعات الاقتصادية المملوكة لها تقريبا.

ولأنه لم يتم تفكيك جمهورية الضباط، تم استخدام نفوذها السياسي الواسع وسيطرتها على الجيوب البيروقراطية والاقتصادية الرئيسة لمنع مرسي أو أي رئيس بعده من ممارسة السلطة الحقيقية، وإسقاط أي حكومة مستقبلية لا تكون على مزاجها.

العسكر وارث مبارك

يذكر انه بعد العام 1991، وسّعت القوات المسلّحة المصرية توغّلها التام في كلّ مجال تقريباً من مجالات نظام حسني مبارك القائم على المحسوبيات. وجرت استمالة كبار الضباط عبر وعدهم بتعيينهم بعد التقاعد في مناصب رئيسة في الوزارات والهيئات الحكومية والشركات المملوكة للدولة، ومنحهم رواتب إضافية وفرصاً مربحة تُمكِّنهم من كسب دخل إضافي وزيادة موجوداتهم المادية، وذلك مقابل ولائهم للرئيس.

جمهورية الضباط هذه شكّلت أداةً أساسيةً للسلطة الرئاسية، ولاتزال تحتفظ بنفوذها السياسي المتغلغل حتى بعد سقوط مبارك، مخترقةً جهاز الدولة والاقتصاد على السواء، لا على مستوى القيادة وحسب، بل أيضاً على المستويات كافة.

كما أن جمهورية الضباط تمارس سيطرة حصريّة على ميزانية الدفاع، والمساعدة العسكرية الأميركية، والشركات المملوكة للمؤسّسة العسكرية. يُضاف إلى ذلك أن جمهورية الضباط تستند إلى شعور عميق بالأحقيّة المؤسّسية والشخصية. ولذا، إن تقليصها وردّها إلى حجمها الطبيعي سيكون عملية دقيقة وطويلة تستغرق سنوات عديدة.

جذور جمهورية الضباط

ظهرت جمهورية الضباط في الأصل في أعقاب إطاحة النظام الملكي على يد القوات المسلحة المصرية في العام 1952، وخصوصاً بعد تثبيت العقيد جمال عبد الناصر رئيساً للبلاد عن طريق الاستفتاء الشعبي في العام 1956.

وقد جرى نزع الصبغة العسكرية جزئياً عن مجلس الوزراء إلى حدّ كبير في عهد خلفه أنور السادات في السبعينيات، واستمر هذا الاتجاه في ظلّ التهميش السياسي الظاهري للقوات المسلحة المصرية خلال رئاسة حسني مبارك، التي بدأت في العام 1981، وهو رابع عسكري يشغل هذا المنصب منذ أن تعيَّنَ اللواء محمد نجيب رئيساً للوزراء في العام 1952، ثم رئيساً للجمهورية في العام 1953.

لم تَزُل جمهورية الضباط يوماً، بل توسّعت بأشكال جديدة لتصبح الدعامة الأساسية لنظام مبارك القائم على المحسوبيات، إلى أن خرجت من ظلّه لتتولّى السلطة الكاملة في أوائل العام 2011.

ويمكن للمتقاعدين العسكريين الذين تربطهم علاقات مع جهات نافذة أن يأملوا في تعيينهم في وظائف في الجهاز الحكومي المدني توفّر لهم فرصاً مربحة خاصة تمكِّنهم من تأمين دخل إضافي أو مضاعفة موجوداتهم المادية إلى جانب الرواتب والمعاشات.

فضلاً عن ذلك، نشأ بدل الولاء بوصفه حافزاً قوياً للصفين الثاني والثالث من الضباط كي يمتثلوا للنظام ريثما يأتي دورهم. بالنسبة إلى الضباط الذين يتقاعدون برتبة لواء، ويحصلون على مبلغ مقطوع يصل إلى 40000 جنيه مصري (6670 دولاراً)، ومعاش تقاعدي شهري يصل إلى 3000 جنيه (500 دولار)، لابدّ أن يشكّل احتمال حصولهم على رواتب شهرية تتراوح بين 100000 ومليون جنيه (16670 إلى 166670 دولاراً)، بحسب بعض التقارير، حافزاً قوياً.

نظام محسوبية مبارك

ثمّة عوامل ثلاثة متظافرة دفعت دمج جمهورية الضباط في نظام المحسوبية التابع لمبارك. كان أولها تصميم مبارك على ألا يجازف بصعود رجل عسكري قوي آخر يمكن أن يشكّل تحدّياً لسلطته. وقد انعكس هذا في قيامه في العام 1989 بإقالة وزير الدفاع أبو غزالة، الذي كان يتمتع، بحسب اعتقاد الكثيرين، بشعبية تفوق شعبية رئيس الجمهورية، سواء داخل القوات المسلحة أم بين عامة الشعب.

وبعد فترة فاصلة تولّى خلالها اللواء يوسف صبري أبو طالب (الفريق لاحقاً)، والذي يحظى بتقدير كبير، هذا المنصب، عُيّن طنطاوي وزيراً للدفاع في أيار/مايو 1991. في ظلّ طنطاوي، الذي وصفه ضباط مصريون لم يكشف عن أسمائهم بأنه "كلب مبارك"، حسب ما نُقِل عنهم في برقية للسفارة الأميركية في العام 2008 نشرها موقع "ويكيليكس"، تم استقطاب المستوى القيادي في القوات المسلحة إلى قلب نظام المحسوبية.

ثانياً، أدّى الصراع المتصاعد مع الجهاديين الإسلاميين المسلحين، والذي ازداد مرارة بعد محاولة اغتيال مبارك في أديس أبابا في العام 1995، إلى تسريع ضمّ سلك الضباط في القوات المسلحة إلى داخل نظام مبارك، علماً أن ذلك لم يكن واضحاً في البداية، نظراً إلى الاتجاه نحو زيادة الاعتماد على الأجهزة الأمنية. فقد ازداد عديدها ليصل إلى ما يقدّر بـ1.4 مليون، وفقاً لبعض التقديرات، عند إطاحة مبارك، أو ما يعادل قرابة 1.5 أضعاف حجم القوات المسلحة واحتياطيها مجتمعَين. في غضون ذلك، ارتفعت ميزانية وزارة الداخلية السنوية ثلاثة أضعاف مقارنةً بالزيادة التي شهدتها ميزانية الدفاع.

شاع الاعتقاد أن ظهور "الدولة الأمنية" قد همّش القوات المسلحة، لكن صعود نجم الأجهزة الأمنية في المعركة ضد الإسلاميين، الذي حوّل الأنظار عن المؤسسة العسكرية، كان نوعاً من ذرّ الرماد في العيون لأن القوات المسلحة استمرت في لعب دور لاغنى عنه في المحافظة على النظام.

بقيت القوات المسلحة لاعباً أساسياً في "نظام الحكم متعدّد الأطراف المتصارعة" المؤلّف من قوى مؤسسية وسياسية متنوّعة بإشراف الرئاسة، ومنها الأجهزة الأمنية والاستخبارية، والجماعات الاقتصادية الرئيسة، والحزب الوطني الديمقراطي، وخصوصاً عقب صعود نجم جمال مبارك، نجل الرئيس، ومَن حوله من وزراء ورجال أعمال متنفّذين بعد العام 2000، الذي هدّد بإخفاء أو تقليص نفوذ القوات المسلحة.

المشاريع الاقتصادية

وتدير جمهورية الضباط اقتصادها العسكري الرسمي الخاص، الذي يدرّ عليها مصادر دخل لا تمرّ عبر الخزينة العامة. يوجد مكتب خاص في وزارة المالية يُدقِّق في حسابات القوات المسلحة والهيئات التابعة لها، وعلى الأرجح بالتنسيق مع مساعد وزير الدفاع للشؤون المالية، إلا أن بياناته وتقاريره لا تخضع إلى سيطرة أو إشراف البرلمان أو أي هيئة مدنية أخرى.

ويُعتقَد أن جزءاً من العوائد يُنفَق على بدلات الضباط ومساكنهم، وعلى إدخال تحسينات أخرى على مستويات المعيشة. أما الباقي فيُعاد استثماره أو يُستخدَم لتكملة الإنفاق على الصيانة والعمليات والمقتنيات التي لا تغطيها ميزانية الدفاع أو المساعدات العسكرية الأميركية.

يتكوّن الاقتصاد العسكري من أربعة أقسام رئيسة هي: الصناعات العسكرية التي تتبع وزارة الإنتاج الحربي، والهيئة العربية للتصنيع المملوكة للدولة، وجهاز مشروعات الخدمة الوطنية التابعة لوزارة الدفاع، والمشاريع المُدِرّة للدخل الخاصة بالقوات المسلحة، بما في ذلك النوادي والفنادق العسكرية وعقود الأشغال العامة المدنية التي تتولاها هيئة الهندسة العسكرية، ودائرة الأشغال العسكرية، ودائرة المياه التابعة لها. وقد تفرّع هذا القطاع بأكمله إلى مجموعة متشعّبة ومتنوّعة ومتزايدة الأهمية للإنتاج المدني وتقديم الخدمات في القطاع المدني منذ التسعينيات.

"

وتدير جمهورية الضباط اقتصادها العسكري الرسمي الخاص، الذي يدرّ عليها مصادر دخل لا تمرّ عبر الخزينة العامة

"

وشيئاً فشيئاً يتصرّف اقتصاد المؤسّسة العسكرية كقطاع تجاري، ساعياً إلى إقامة الشراكات أو المشاريع المشتركة مع الشركات المحلية والأجنبية الخاصة، وباحثاً عن فرص للتصدير والاستثمار في الخارج.

استثمار ثورة يناير

قام المجلس العسكري، وبعناد متزايد منذ إطاحة مبارك، بالتعبئة للدفاع عن مكانته الاستثنائية، وعن المصالح الجوهرية لجمهورية الضباط، فيما قدّم ذلك وكأنه دفاعاً عن القوات المسلحة. فبعد عقود نأى بنفسه فيها عن لعب دور مباشر في السياسة الوطنية والحكومة، أعاد منذ تولّيه السلطة في شباط/فبراير 2011 تعريف علاقته بالدولة المصرية، وبالتالي تأكيد أولوياته المؤسّسية والسياسية على نحو أكثر وضوحاً من أي وقت مضى.

ويسعى المجلس العسكري إلى الحفاظ على امتيازاته السياسية، ومكافآته المادية، ومكانته الاجتماعية التي يعتقد أنها جميعاً استحقاقات لقاء دفاع القوات المسلحة عن مصر، كما يسعى إلى تعزيزها بحصانة قانونية رسمية عن أي من أفعاله، ماضياً أو مستقبلاً، على حدّ سواء.

كان فرض شكل من أشكال الوصاية العسكرية أمراً مرجّحاً على الدوام، لكنه لم يكن حتمياً. لقد أصبح المجلس العسكري أكثر قوة وأكثر عرضة في آن، بعد إطاحة مبارك. فالانتفاضة الشعبية قذفته إلى واجهة الصدارة السياسية، لكنها اضطرّته أيضاً إلى البحث عن وسائل يعوّض بها خسارة شبكة العلاقات الشخصية والتفاهمات غير الرسمية التي أمّنت جمهورية الضباط في ظل حكم مبارك. ولعلّ هذا يفسر سلسلة المحاولات التي يقوم بها المجلس العسكري لتحويل السلطات التي تولاها في شباط/فبراير 2011 إلى مبادئ "فوق دستورية" من شأنها إضفاء الطابع المؤسّسي الثابت على امتيازاته وحصانته ضمن ترتيبات رسمية، ووضعها بشكل دائم فوق الدولة المصرية.

"

لقد أصبح المجلس العسكري أكثر قوة وأكثر عرضة في آن، بعد إطاحة مبارك

"

لكن المجلس العسكري لم يتعلّم حتى الآن أنه لا يمكنه أن يحتفظ بكل شيء وألا يتخلّى عن أي شيء. بيد أنه غير قادر على ترجمة السلطات التي لايزال يملكها أو المستويات العالية من الثقة والقبول التي لايزال ينالها من المواطنين عامةً، إلى تعبئة سياسية فعّالة، ولا إلى إضفاء الشرعية على تدخّله المستمر في المجال المدني. لهذا وجد الرئيس مرسي والطبقة السياسية الجديدة الناشئة صعوبة في توسيع الانفتاح الديمقراطي في مصر وكلّما تقدّموا، ازدادت مقاومة الشبكات والمعاقل الإدارية المتبقية لجمهورية الضباط, غير أن قيام السلطات المدنية بتقليصها في ظلّ التحوّل الديمقراطي قد يجعلها تتحوّل إلى "دولة خفيّة" مُبطَّنة، تعرقل سياسات الحكومة والإصلاحات وتعيق تقديم الخدمات العامة، ما يؤدّي إلى تقويض أداء وشرعية السلطات المدنية المنتخبة ديمقراطياً.

مع ذلك، يجب أن يلزم القادة المدنيون الحذر. فكلما أحرزوا مزيداً من التقدّم، كافحت جمهورية الضباط أكثر لإحكام قبضتها على ما لها من سلطات، مستخدمةً شبكاتها الواسعة المتغلغلة في جميع أنحاء جهاز الدولة بغية عرقلة سياسة الحكومة وإصلاحاتها، وإعاقة تأمين الخدمات العامة، وتقويض النظام الديمقراطي الناشئ. إن جمهورية مصر الثانية لن تولد إلا عندما تزول جمهورية الضباط عن الوجود.

البث المباشر