قائد الطوفان قائد الطوفان

استيطان بوجهٍ آخر

الشوارع الالتفافية .. أفاعي تبتلع الضفة

الشوارع الالتفافية تلتهم الضفة
الشوارع الالتفافية تلتهم الضفة

الضفة المحتلة- الرسالة نت

التعب والعناء حكاية لابد أن يكون الفلسطيني أحد فصولها أينما اتجه في الضفة المحتلة حتى يصل إلى مبتغاه رغم أن الأرض و الحجارة تشهد له بحقه فيها.

تلك الحكاية قررنا أن ننسجها حين توجهنا من مدينة رام الله قاصدين أقصى جنوب الضفة، فالرحلة هذه تستغرق ساعتين دون أن يتحكم مزاج الجنود بتحركات المركبات الفلسطينية، أما عندما يقرر أولئك قلب حياة الفلسطيني رأساً على عقب فإن عقارب الساعة تمل من صبره على استخفاف الجنود بروحه البشرية وأرواح من معه مهما اختلفت ظروفهم، فلا كبير السن تشفع له العصا التي يرتكز عليها، ولا الطفل تشفع له براءته، ولا المرأة يشفع لها جنينٌ بداخلها.

ومع بداية الطريق تستعد العين لرؤية أرض فلسطين وما تضمها من جبالٍ غراء وأودية ممتدة وأشجار مختلفة الأنواع والأطوال، ولكنّ شبح الاحتلال لا بد أن يخيم على كل جميلٍ في الأرض المسلوبة، فعلى كل قمة جبل تربض مستوطنة سوداء تشق بساطة الأرض ببيوتها المغروسة في الأرض قسراً، وفي كل مكان آخر تتجول الآليات وتُقام المعسكرات سالخةً عن الأرض أي جزء طبيعي منها.

حتى الشوارع

وأثناء مرور "الرسالة" بمشارف مدينة القدس المحتلة يبدو الفرق جلياً بين الشوارع التي شيدها الاحتلال لمغتصبيه وتلك التي تركها للفلسطينيين، فالأولى يطلق عليها الشوارع الالتفافية التي من المحرم وفق دستور الاحتلال دخول أي جسد فلسطيني إليها، وهي تحمل طابعاً حديثاً في الخدمات التي تضمها، أما الخاصة بالفلسطينيين فتكاد تعطب سيارات المواطنين لمنع الاحتلال تعبيدها تحت حجج أمنية ويسودها الظلام ليلاً دون سماح الاحتلال بإنارتها.

وأثناء مرور السيارة على أحد الطرق الصعبة لفتت أنظارنا طريق أخرى سهلة مجاورة بنفس الاتجاه، وعند الاستفسار عن السبب في عدم السير فيها كان الجواب مؤلماً للأسماع ولكل خلية حية "هي طريق خاصة بالمستوطنين"، فاضطررنا لإكمال الطريق التي كتب الله على الفلسطيني أن يسير فيها.

ولأن سياسة الاحتلال تقوم على ابتلاع الأراضي والتهام ما يحلو له منها، فإن إنشاء الطرق الالتفافية ليس لتخصيصها للمغتصبين فقط، وإنما لمصادرة مزيد من الأرض الفلسطينية تحت حجة توسيع الشوارع من خلال أوامر وضع اليد بدعوى الضرورة الأمنية مما يجعل الملاك الفلسطينيين غير قادرين على الاحتجاج ضدها، فيما هذا الأمر إجراء أولي للمصادرة النهائية.

وتربط هذه الطرق المستوطنات ببعضها بعيداً عن المناطق السكنية، حيث يتم تجديد طرق ترابية قديمة وشق أخرى إضافة إلى فتح طرق سريعة تخترق مناطق الضفة الغربية المأهولة بالسكان من الشمال إلى الجنوب عبر وادي الأردن، بطريقة يصبح فيها المغتصبون الذين يعيشون وسط القرى والمدن الفلسطينية قادرين على التحرك دون رؤية الفلسطينيين.

ولا بد للمسافر بين مدن الضفة المحتلة أن يلاحظ سياسة أخرى يسعى الاحتلال إلى تطبيقها من خلال شق الطرق الالتفافية، وتتمثل في تحويل التجمعات الفلسطينية إلى "كانتونات" منعزلة في شمال ووسط وجنوب الضفة محاصرة بالمستوطنات والطرق الالتفافية والمعسكرات، الأمر الذي يضمن للصهاينة السيطرة الأمنية على تلك المناطق والحيلولة دون إقامة كيان فلسطيني متكامل.

وبعد التخلص من مشهد القدس محاطة بالأسوار والمستوطنات والجنود والأسلحة، ترغب العين في رؤية الأراضي الزراعية التي تميز الطابع الفلسطيني، ولكن حتى تلك تفسدها مخططات الاحتلال، فآلاف الدونمات الزراعية تم إتلافها وتجريفها وهدم المنازل المجاورة لها لصالح إنشاء الطرق الالتفافية، ليتحول منظر القرى إلى مجموعة بيوت محاطة بالأسيجة الشائكة والحجارة الضخمة ويخلو محيطها من الأراضي الزراعية التي من المفترض أن تميزها.

شكل استيطاني

وتبدأ قصة الشوارع الالتفافية من نية الصهاينة في الاستيلاء على كل الأرض، فبدأت تأخذ شكل مخطط استيطاني مع بداية الاستيطان الصهيوني، ففي عام 1994 أعلن جيش الاحتلال نظاماً كاملاً من الطرق الالتفافية، وبلغ عددها عام 1996 حوالي 20 طريقاً تغطي 400 كم ولكنها وصلت في بداية الانتفاضة إلى 1275كم، وما تزال دولة الاحتلال تعمل على شق هذه الطرق مخصصة لها ما يزيد على مليار شيكل منذ اتفاقية أوسلو.

ويسعى الاحتلال الماكر إلى السيطرة على المزيد من الأراضي المحتلة عبر تعيين ما يزيد على متر واحد على جانب الشارع لما يسمى بأثر الارتداد، حتى وصل مجموع ذلك في كل الضفة مليوناً و144 ألف كم، كما وصل الأمر بعنصرية الاحتلال ورعبه الأمني إلى أن ينشئ طريقاً التفافياً خاصاُ بطفل صهيوني كان يريد أن يأخذ دروساً في عزف الكمان في مستوطنة أخرى، ووضع الجيش دبابة وعدداً من الجنود ليرافقوه في ذهابه وإيابه!

ولا يخفى على أحد أن الفلسطينيين يتعرضون لأقسى أنواع الإذلال إذا ما اضطروا إلى دخول الطرق تلك، وخاصة العمال الذين يتوجهون إلى الأراضي المحتلة عام 1948، فيتعرضون للضرب المبرح ومصادرة بطاقاتهم الشخصية إذا رآهم الجنود يسيرون بالقرب من تلك الطرق.

وسائل أخرى

ومروراً بمدينة بيت لحم وصولاً إلى الخليل في جنوب الضفة تمر على المسافر عدة مشاهد تكاد تنسيه أنه يمشي في أرض فلسطينية، فحتى الطرق الصعبة التي تركها المحتل للفلسطينيين ينشر عليها الحواجز العسكرية منغصاً عليهم كل دقيقة في الرحلة التي من المفترض أن تكون ممتعة.

ولا بد من الإشارة إلى أن مدناً أخرى كنابلس وجنين يضطر أهاليها إلى الخروج في ساعات الفجر إذا ما أرادوا الذهاب إلى مدينة أخرى لأسباب قاهرة حتى يتخلصوا من ظلم الاحتلال وملاحقته لهم، أما إذا لم يستطيعوا ذلك فليس أمامهم إلا الطرق الترابية التي من شبه المستحيل مرور المركبات منها، وفي أحيان كثيرة يعودون إلى طريقة السير على الأقدام كي يتمكنوا من الوصول إلى مقاصدهم، وحتى في هذا الحال تلاحقهم رصاصات الاحتلال إذا قرر مزاج الجنود أن يمنعهم من المرور.

وطيلة الطريق التي تتخللها مشاهد ظلم الاحتلال إلى أقصى جنوب الضفة يسير أيضاً الجدار العنصري معنا مغلقاً حتى زرقة السماء عن أنظارنا، فلا يجد الفلسطينيون إلا احتساب كل هذا العناء عند الله علّه يزيل الغيمة السوداء عن قلوبهم ويريهم فجراً يمسح كل ما هو صهيوني عن أرض الضفة.

 

البث المباشر