يعرف الردع النووي استراتيجيا بأنه قدرة طرف دولي على حمل طرف دولي آخر على عدم التجاسر والتورط في استخدام السلاح النووي ضده، إثر تيقن الآخر بقدرة الأول على الرد بقوة وإلحاق أذى أو ضرر مماثل، أو ربما أكبر، به ردا على هجومه.
وحتى يتحقق هذا الردع بالفعل يتعين توفر شروط عديدة أبرزها صدقية ذلك الردع، بمعنى امتلاك الطرف الأول لأركان هذا الردع من حيث القوة النووية القاهرة، فضلا عن إرادة ومنظومة استخدامها كاملة، بما في ذلك أدوات توصيلها، علاوة على اقتناع الطرف الآخر وتيقنه من توفر هذه المعطيات مجتمعة لدى الطرف الأول.
أوهام الردع النووي
كثيرة هي الكتابات والدراسات التي تناولت حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، غير أن القليل منها هو الذي تعرض لمسألة الخيار النووي الإسرائيلي في تلك الحرب كأداة ردع للجانب العربي وعنصر ضغط على القاهرة ودمشق لمنعهما من شن هجوم مباغت على تل أبيب بغية استعادة الأرض المغتصبة، ما أبقى تساؤلات مهمة معلقة، يتصل أبرزها بتأثير السلاح النووي الإسرائيلي في قرار الطرفين العربيين ببدء العمليات العسكرية ظهيرة السادس من أكتوبر/تشرين الأول من جهة، وإماطة اللثام عن مدى إمكانية استخدام إسرائيل فعلا لذلك السلاح أو استخدامها له إبان العمليات العسكرية من جهة أخرى.
وبخصوص القضية الأولى، يلاحظ أن الدعاية الصهيونية قد عكفت على الادعاء بأن ما أجبر المصريين على القيام بعمل عسكري محدود وعدم الاجتراء على تطوير ذلك العمل، برغم نجاحهم المبهر في بدايته، ثم اضطرارهم إلى تدشين معاهدة سلام مع الإسرائيليين بعد مرور سنوات قلائل، إنما هو إدراك القيادة المصرية لقوة إسرائيل المتعاظمة وخوفها من ترسانتها النووية المرعبة.
في المقابل، ثمة شواهد شتى واعتبارات عديدة تشي بأن مسألة الردع النووي الإسرائيلي آنذاك لم تكن ذات تأثير محوري على القرارين المصري والسوري بخوض الحرب، يمكن إيجاز أهمها في ما يأتي:
1- إن تل أبيب كانت تتبنى إستراتيجية الغموض النووي القائمة على سياسة الردع بالشك، فلقد حرص المسؤولون الإسرائيليون وقتذاك على حرمان العرب من التأكد أو التيقن من أنباء امتلاك الدولة العبرية لمثل هذه الأسلحة الفتاكة، في محاولة للتشويش على التخطيط العسكري العربي، وإرباك متخذي القرارات الإستراتيجية في دول المواجهة.
وكان تفوق إسرائيل الهائل في مجال الأسلحة التقليدية، بفضل الدعم الأميركي والغربي اللامحدود، كافيا لردع العرب وإقناع المسؤولين الإسرائيليين بعدم جدوى التصريح رسميا بامتلاك أسلحة نووية تلافيا لأية ردود أفعال دولية غير مرضية، وتعزيزا للهواجس والشكوك العربية بشأن حقيقة امتلاك تل أبيب منظومة كاملة من الأسلحة النووية ومن ثم في جدية التهديد النووي الإسرائيلي.
2- كانت الضغوط المحلية والإقليمية التي أثقلت كاهل النظام المصري حينئذ، إلى جانب حاجة الرئيس أنور السادات إلى مصادر جديدة وركائز قوية لشرعيته الهشة التي باتت مهددة في حينها، كفيلة بحمل السادات على المضي قدما في استعادة الأرض المغتصبة ومحو عار هزيمة 1967من خلال عمل عسكري محسوب، غير مكبل بأسطورة السلاح النووي الإسرائيلي المزعوم.
بكلمات أخرى، فإن اعتبارات وقيماً غالية يهون في سبيل الذود عنها أي تهديد نووي هي التي دفعت السادات، ومن خلفه جموع المصريين والعرب، للمضي قدما في قرار الحرب من دون مراعاة لتهديد قد لا يكون إلا سرابا، أو شيئا من الأوهام.
3- إنه حتى في حال ثبوت امتلاك إسرائيل منظومة تسلح نووية متكاملة ومجهزة للاستخدام الفعلي، فإن اعتبارات مهمة عدة كانت تحول دون إقدامها على استخدامها إبان حرب رمضان، لعل أهمها:
عدم الاستعداد الأميركي والدولي لتقبل كارثة نووية بمنطقة الشرق الأوسط، خصوصا أن الغرب كان المسؤول عن تزويد إسرائيل بالتكنولوجيا والمعدات الخاصة بإنتاج وتصنيع مثل هذه الأسلحة.
تيقن كل من واشنطن وتل أبيب من أن مصر تشن هجوما محدودا بغية تحرير جزء من أراضيها المحتلة ما يسهم في تحريك المياه الراكدة على الصعيد السياسي، ويمهد السبيل لتدشين مفاوضات السلام لاستعادة الأراضي المسلوبة، لاسيما وأن إمكانات مصر الاقتصادية وقدراتها العسكرية وقتذاك لم تكن تطيق أهدافا إستراتيجية أبعد مدى من ذلك.
نجاح إسرائيل المتنامي في استعادة توازنها على الجبهة الشمالية، التي كانت تفوق الجبهة الجنوبية خطرا عليها بسبب قربها الجغرافي الشديد من العمق الإسرائيلي، في وقت لم يفقد الإسرائيليون ثقتهم في الدعم الأميركي الهائل لهم من أجل وقف تقدم المصريين جنوبا، وتغيير مسار العمليات العسكرية على جبهتهم.
لم يسفر الإنجاز العسكري المصري والسوري خلال الأيام الأولى للحرب عن تعرض وجود الدولة العبرية أو حتى أمنها القومي لتهديد حقيقي مباشر، حيث كان الإسرائيليون واثقين من أن المصريين لا يبغون من حربهم المحدودة سوى تحرير سيناء فقط، وهي التي لا يمكن، بالرغم من أهميتها بالنسبة للإسرائيليين، أن تدفع بتل أبيب نحو إخراج القنبلة من القبو وتنفيذ "الخيار شمشون" خصوصا وأن المصريين لم يتسن لهم خلال الحرب إلا السيطرة على شريط ضيق منها.
إن امتلاك إسرائيل أسلحة نووية في ذلك التوقيت لا يعني بالضرورة أن بمقدورها التحكم في الأثر أو المدى التدميري لهذه الأسلحة، أو أنها نجحت في تطوير أسلحة تكتيكية محدودة الأثر التدميري بحيث لا تطال إسرائيل حال استخدامها ضد عدو مجاور ضمن نطاق جغرافي محدود، ومن ثم يغدو إقدامها على استخدام سلاحها النووي الإستراتيجي المفترض ضربا من الجنون أو الانتحار.
القابلية للاستخدام
متعددة هي استخدامات القدرة أو القوة النووية، إذ قد تستخدم على نحو فعلي مباشر مثلما جرى للمرة الوحيدة في التاريخ البشري، حتى الآن على الأقل، نهاية الحرب الكونية الثانية حينما ألقت الولايات المتحدة بقنبلتيها النوويتين على مدينتي هيروشيما وناجازاكي اليابانيتين في أغسطس/آب من العام 1945، وإما أن تستخدم في شكل غير مباشر من خلال التهديد والابتزاز، اقتصاديا كان أو سياسيا، كما هي الحال نسبيا مع كوريا الشمالية إزاء جيرانها الآسيويين في شبه الجزيرة الكورية واليابان إضافة إلى الولايات المتحدة، أو عسكرياً وتكنولوجياً مثلما هي الحال بين إيران وإسرائيل وأميركا.
ولقد تنوعت آراء الخبراء والمحللين في شأن إمكانية استخدام إسرائيل للسلاح النووي خلال حرب 1973. بيد أن هناك ما يشبه الإجماع على أن الدولة العبرية هددت بالفعل باستخدام سلاحها النووي ونشرت صواريخ وقاذفات محملة بالرؤوس النووية ووجهتها نحو مواقع القيادة والسيطرة في القاهرة ودمشق، وذلك بعد عودة وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك موشي دايان منهارا من زيارته المفجعة للجبهة في اليوم الثالث للحرب.
ورغم أن تقريرا لمجلة "تايم" أكد صحة هذا الادعاء، إلا أن الحكومة الإسرائيلية قد نفته بشدة حفاظا على صورتها أمام العالم وحماية لترسانتها النووية من التفكيك أو فرض وصاية دولية عليها مخافة أن تقع تل أبيب في شرك استخدامها على نحو يجهز على الاستقرار والتوازن الإستراتيجي في المنطقة، ويهدد المصالح الغربية فيها.
والثابت في هذا الخصوص أن القادة الإسرائيليين فوجئوا بأداء القوات المصرية والسورية في الأيام الأولى للحرب حتى إن بعضهم بدأ يشكك في نوايا المصريين وأهدافهم من الحرب ظانين أنهم عازمون على التوغل في سيناء نحو منطقة الممرات وفقا لأكثر التقديرات الإسرائيلية تفاؤلا، وهو الأمر الذي زلزل ثقة القادة الإسرائيليين في جاهزية قواتهم العسكرية التقليدية على امتصاص الهجوم العربي والرد عليه بهجوم مضاد أشد وطأة.
وإذا أضفنا إلى ذلك تداعيات عنصر المفاجأة الإستراتيجية العربية والتبكيت الذي أمطرت به واشنطن أصدقاءها في تل أبيب بسبب الخسائر الهائلة في المعدات خلال الأيام الأولى للحرب، يمكن استشعار دواعي النزوع الإسرائيلي لاستخدام الأسلحة النووية لتغيير مسار المعركة.
وقد رهنت إسرائيل عدولها عن هذا التوجه بموافقة واشنطن على قائمة الطلبات التي وضعت على مكتب الرئيس ريتشارد نيكسون منذ التاسع من أكتوبر/تشرين الأول، والتى تضمنت أسلحة متطورة ومعدات حربية حديثة تعوض إسرائيل عما فقدته خلال الأيام الأولى للحرب، وتعينها على شن هجوم مضاد بمساعدة أقمار التجسس الأميركية.
وهرعت السفارة الإسرائيلية بواشنطن إلى مساعدة اللوبي اليهودي لشن حملة دعائية شعواء ضد إدارة الرئيس نيكسون متهمة إياها بالتقاعس عن نجدة إسرائيل، وهي الحملة التي كادت أن تفضي إلى نتائج عكسية إثر استياء نيكسون الشديد مما تضمنته من أكاذيب واتهامات باطلة بشأنه، لولا تدخل وزير خارجيته الجديد هنري كيسنجر، الذي اتخذ منه الإسرائيليون مخلصاً ونصيراً، إذ برع في إقناع نيكسون بتلبية المطالب الإسرائيلية لتجنيب المنطقة والعالم ويلات أي تهور نووي إسرائيلي.
ابتزاز نووى
يمكن القول إن رؤية إسرائيل لفرص وأسس التسوية السلمية بعد الحرب كانت تختلف عن ذلك الذي كان يدور في خلد الأميركيين، فقد كانت (رئيسة الحكومة الإسرائيلية) غولدا مائير ترى أن خير وسيلة للاحتفاظ بعنصر الردع التقليدي ضد العرب، بما يضمن قبولهم للمفاوضات، هو كسر عزيمتهم والإجهاز على أية رغبة لديهم في المقاومة أو الصمود، وهو ما لن يتأتى إلا من خلال هزيمة عسكرية ساحقة تجبرهم على عدم معاودة التفكير في شن أية حروب مستقبلا ضد إسرائيل، بينما كانت إدارة نيكسون في المقابل ترى أن العرب في حاجة إلى إنجاز عسكري محدود لا يلحق ضرراً بالغاً بإسرائيل، بقدر ما يحسن من موقفهم التفاوضى ويوفر لهم مدخلا لمفاوضات سلام شبه متكافئة مع الإسرائيليين، على نحو يجبر أولئك الآخرين على إبداء كثير من المرونة.
وتأسيساً على ذلك التباين في الرؤى بين واشنطن وتل أبيب، كان لزاماً على إسرائيل تحري السبل الكفيلة بفرض رؤيتها للتسوية على الأميركيين والعرب في آن، وهنالك علا مجددا صوت أنصار استخدام السلاح النووي الإسرائيلي الذي أمسى، برأيهم، عبئاً اقتصادياً وإستراتيجياً يكاد يفقده مزيته الإستراتيجية النسبية في لحظة تاريخية حرجة من الصراع مع العرب.
ودونما تردد، وافقت مائير على نشر صواريخ متوسطة المدى من طراز "أريحا" علاوة على قاذفات من طراز "فانتوم" مزودة جميعها برؤوس نووية موجهة صوب القاهرة ودمشق، حتى تلتقطها أقمار التجسس الاصطناعية الأميركية فتجزع إدارة نيكسون وتبادر بإغداق الإمدادات العسكرية غير المشروطة على إسرائيل.
وهو ما حدث بالفعل، إذ لم تمض سوى ساعات حتى دشن الجسر الجوي الأميركي ليمطر القوات الإسرائيلية بأثمن ما تحويه الترسانة العسكرية الأميركية من أسلحة ومعدات، معلنا نجاح سياسة "الابتزاز النووي" الإسرائيلية التي كان لها بالغ الأثر في تغيير مسار الحرب خلال أيامها التالية.
وما إن وضعت الحرب أوزارها، حتى تراءى للإسرائيليين ضرورة ارتكاز عقيدتهم العسكرية على إستراتيجية احتكار الردع النووي في منطقة الشرق الأوسط وتحييد القدرات الردعية غير التقليدية لأي طرف إقليمي آخر، وهي الإستراتيجية التي دأبت تل أبيب على تبنيها مستندة إلى دعم أميركي ملحوظ، وتجلت ملامحها في المساعي الغربية الحثيثة هذه الأيام، بإيعاز إسرائيلي، لتجميد برامج إيران النووية والصاروخية وتفكيك ترسانة سوريا من الأسلحة الكيميائية، بذرائع على شاكلة الحيلولة دون انتشار أسلحة الدمار الشامل عالميا، والحفاظ على استقرار المنطقة وأمن شعوبها.